المقاومة السنية العلمية للفلسفة اليونانية -خلال العصر الإسلامي-

كما سبق أن ذكرنا في الحلقة السابقة فلعلماء أهل السنة ردود كثيرة على الفلسفة وأهلها، ذكرنا في مقدمتهم القاضي أبو بكر بن العربي المالكي المغربي (ق:6هـ) الذي أفرد في كتابه العواصم من القواصم مباحث كثيرة للرد على الفلسفة وأهلها، أجاد في بعضها وكان ضعيفا في أخرى، والفقيه عبد الرحمن بن الجوزي الذي خصص في كتابه تلبيس إبليس فصلين للفلسفة عرض فيهما أفكارها، وبيّن تلبيسات الشيطان على أهلها، ورد على بعض أفكارهم، وثالث هؤلاء العلماء:
الفخر بن الخطيب الرازي، فله مصنفات كثيرة في أصول الدين وعلم الكلام، فيها مباحث كثيرة في الرد على الفلسفة وأهلها، أحصيت منها تسعة مصنفات، منها: نهاية العقول، والمباحث المشرقية، وتهذيب الدلائل في عيون المسائل، وإشارة النظار إلى لطائف الأسرار.
ورابعهم تقي الدين بن تيمية، له مباحث كثيرة جدا في الرد على الفلسفة وأهلها، نجدها مبعثرة في مصنفاته الكثيرة، منها: مجموع الفتاوى، ومنهاج السنة النبوية، ودرء تعارض العقل والنقل، وله في هذا الأخير مناقشات مطولة في الرد على الفلاسفة، وهو كتاب قيم للغاية، مليء بالفوائد والفرائد، والتحقيقات والردود الحاسمة.
وخامسهم المحقق ابن قيم الجوزية، له مباحث كثيرة في نقد الفلسفة وأهلها، نجدها مبعثرة في مؤلفاته، منها: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، والصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، وهما كتابان مشهوران مطبوعان ومتداولان بين أهل العلم.
وآخرهم المؤرخ الفقيه عبد الرحمن بن خلدون (ت808هـ)، أفرد في مقدمته مبحثا لإبطال الفلسفة، عرض فيه بعض أفكارها، وناقش بعضها، ونصح قارئها بمطالعة العلوم الشرعية قبل الإطلاع على الفلسفة، لكنه لم يتوسع في مناقشتها، ولم يأت بشيء جديد له أهمية كبرى في نقدها.
وأشير هنا إلى ملاحظتين هامتين، الأولى أنه يبدو لي أن مصنفات أهل السنة في الرد على الفلسفة ورجالها قليلة جدا، بالمقارنة إلى ما صنفوه من كتب في الفقه والحديث وعلم الكلام واللغة العربية وآدابها، وحتى بالمقارنة إلى ما ألفه الفلاسفة المسلمون في التعريف بالفلسفة ونشرها، على ما ذكرناه من قبل فإن إنتاجهم فيها قليل بالنسبة لما أنتجه غيرهم من العلماء في ميادين تخصصهم.
وهذا الأمر سبق وأن أشار إليه اثنان من كبار علماء أهل السنة، هما: عبد الله بن قتيبة الدينوري (ت 276 هـ) وتقي الدين بن تيمية، فابن قتيبة أشار إلى تقاعس المحدثين في زمانه عن النهوض للرد على الشبهات التي أثارها خصومهم، وذكر أنه تضايق من سكوتهم، وكأنهم رضوا به، فدفعه ذلك إلى النهوض للرد على هؤلاء، فصنف كتابه: تأويل مختلف الحديث، وكان يقول: الكلام لا يُعارض بالسكوت، والشك لا يُداوى بالوقوف)). وهو هنا وإن كان يتكلم عن تقاعس المحدثين في الرد على المتكلمين، فإن ذلك يصدق عليهم أيضا تجاه الفلاسفة؛ فإن لم يردوا على أولئك، فمن باب أولى أن لا يردوا عل هؤلاء.
وأما ابن تيمية فإنه أشار إلى أن من المسلمين من أعرض عن الفلسفة اليونانية -عندما عُربت- إعراضا مجملا، ولم يتسلح بعلوم الشريعة لمعرفة حقيقتها والرد على باطلها، وسمى هذا العمل -المطلوب منهم- جهادا، فقال عنهم: (ولم يجاهدهم الجهاد المشروع، وهذا حال كثير من أهل الحديث والفقه)، فواضح من كلامه أن كثيرا من المحدثين والفقهاء، اكتفوا بالمعارضة المجملة للفلسفة اليونانية، ولم يحملوا أنفسهم على الرد عليها الرد المفصل متسلحين بالنقل الصحيح والعقل الصريح والعلم الصحيح، لذا قلّ تراث أهل السنة في نقد الفلسفة اليونانية والرد عليها، فما هي أسباب ذلك؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *