رابعا: من تناقضات ابن رشد في موقفه من التأويل:
تبين لي من تتبع موقف ابن رشد من التأويل وتطبيقه له، ومدى التزامه به في الاحتكام إليه، والنظر إلى مختلف المسائل الشرعية، أنه وقع في مجموعة من المتناقضات، تُبينها الشواهد الآتية: أولها أنه ذم التأويل -حسب مفهومه له- وقال: إن الصحابة لم يعرفوه، وهو بدعة فرّقت الأمة وجنت عليها، ويجب الرجوع إلى الكتاب للأخذ منه مباشرة، وكلامه هذا جيد وصحيح، لكنه عاد ونقضه عندما قال: إن التأويل -حسب مفهومه له- واجب، وخاص بأهل البرهان يُؤوّلون به ظواهر الشرع المتعارضة على حد زعمه.
والشاهد الثاني هو أن ابن رشد زعم أن أهل التأويل الحق هم أهل البرهان، وأن تأويلاتهم حق تدل على الحق. لكنه قال أيضا: إن تأويلات هؤلاء تتضمن شيئا من إبطال الظاهر، وإظهارها يُؤدي إلى كفر الجمهور، ومن أظهرها لهم فهو كافر، لأنه أظهر كفرا تضمنته تأويلاتهم، وهذا تناقض صارخ، لأنه لو كان هؤلاء المؤوّلون أهل برهان وتأويلاتهم حق، ما كانت هذه التأويلات مخالفة للشرع، وظاهرها كفر يجب إخفاؤه!!، فلو كانت حقا لوافقت الشرع، وما كانت كفرا.
والشاهد الثالث مفاده أن ابن رشد نصّ صراحة على أن الصفات الإلهية لا يُؤوّل منها ما لم (يُصرّح الشرع بتأويله، وقوله هذا يتضمن تناقضين، أولهما أنه قرر أمرا يُخالف الشريعة، لأنه لا يُوجد في الشرع دليل صحيح ينص على شرعية تأويل النصوص كلها ولا بعضها، حسب المفهوم الرشدي للتأويل، وثانيهما أنه أوّل نصوصا كثيرة ليس له فيها دليل من الشرع على تأويلها، وهو هنا يُعلق التأويل بوجود الدليل الشرعي.
والشاهد الرابع مفاده أن ابن رشد أمر بالتسليم للشريعة والخضوع لها، وقال: يجب على كل إنسان أن يُسلّم بمبادئ الشريعة، ويُقلّد فيها، لأن مبادئها (تفوق العقول الإنسانية، فلابد أن يُعترف بها مع جهل أسبابها)، وقال أيضا: (إن الفلسفة تفحص عن كل ما جاء في الشرع، فإن أدركته استوى الإدراكان، وكان ذلك أتم في المعرفة، وإن لم تدركه أُعلمت بقصور العقل الإنساني عنه) وقوله هذا يتطلب منه -أي من ابن رشد- الخضوع التام للشرع، وعدم تقديم فلسفة اليونان عليه، لكنه لم يلتزم بذلك، وناقضه عندما سمح لأهل البرهان -حسب زعمه- بتأويل حتى مبادئ الشرائع مع عدم التصريح به، وناقضه أيضا عندما زعم أن في الشرع نصوصا متعارضة وظاهرها كفر يجب تأويلها لتتفق مع فلسفة اليونان، كما أنه مارس تأويله التحريفي مع نصوص كثيرة، كتأويله للصفات الإلهية، وللآيات المتعلقة بخلق العالم، والمعاد الأخروي، وقوله بالتخيل في موقفه من النبوة، فهذه التأويلات لا تتفق مع ما قرره سابقا، وتنقض عليه زعمه.
وأما الشاهد الخامس فيتمثل في أن ابن رشد ذكر أن أهل التأويل -حسب مفهومه له- لا يتشابه عليهم الشرع، ولا يُثير فيهم شكوكا ولا حيرة، وهذا يتناقض مع موقفه من وجوب التأويل لإزالة التعارض المزعوم بين النصوص، فإذا كان حالهم من العلم والرسوخ فيه ما قاله عنهم هنا، فأهل التأويل ليسوا في حاجة إلى التأويل أصلا، ولا إلى إخفائه، لأن العلم لا يتشابه عليهم، ولا يُثير فيهم حيرة ولا شكوكا، وبما أنه نص على ضرورة التأويل التحريفي لأهل البرهان المزعومين، فالرجل متناقض مع نفسه.