المقاومة السنية العلمية للفلسفة اليونانية -خلال العصر الإسلامي-

وأما ابن رشد الحفيد، فقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: إنه سار على منهاج سلفه ابن سينا، فسعى إلى تقريب مذهب الفلاسفة المشائين إلى طريقة الأنبياء، وأظهر أن أصوله لا تخالف شرائعهم -أي الأنبياء-، مع مخالفتهم في الباطن، فكان يقول: أن ما أخبروه -أي الأنبياء- عن الله واليوم الآخر لا حقيقة له، وإنما هو تخيّل وتمثيل وأمثال مضروبة، لتفهيم عامة الناس ما ينتفعون به.
وقال أيضا -أي ابن تيمية- أن ابن رشد أدخل في الشريعة التفسير الباطني الفلسفي، وذلك أنه هو شخصيا كان ينتمي إلى الفلاسفة الباطنيين الذين يزعمون أن للكتاب والسنة ظاهرا يخالف الباطن. وزعم أن لنصوص الشريعة ظاهر ومُؤوّل، فالظاهر فرض على الجمهور، عليهم حمله على ظاهره، وترك تأويله. والمُؤوّل هو فرض على العلماء، لا يحل لهم أن يُفصحوا بتأويله للجمهور.
لكن ابن تيمية أنكر عليه ذلك، وردّ على مزاعمه بأنه جعل فرض الجمهور هو اعتقاد الباطل الذي هو خلاف الحق، بما أنه جعل الحق خلاف ظاهره. ولا شك أن ما ادعاه ابن رشد باطل وتلاعب بالشريعة، لا دليل له عليه من الكتاب والسنة والإجماع. والشريعة حقيقة واحدة لا تتجزأ إلى ظاهر وباطن كما فهمها الباطنيون المنحرفون عن المنهج الصحيح في تفسير نصوص الشريعة.
علما بأن حقيقة ما قام به ابن رشد أنه عمل له وجهان: الأول وجه كلامي استخدم فيه علم الكلام، كما في كتابه الكشف عن مناهج الأدلة، وفيه رد على مخالفيه كأهل الحديث والأشاعرة. والثاني هو وجه فلسفي، قرر فيه مذهب أرسطو، انتصر له، وجعل الدين من وراء ظهره، وقرر ما يُخالفه ويُناقضه، كقوله بقدم العالم، والعقول العشرة الأزلية وهذا دليل دامغ على أن هذا الرجل كان مزدوج الشخصية يقول بتعدد الحقيقة، ليصل إلى تقرير أفكاره الأرسطية المشائية، والانتصار لها، على حساب الدين والعقل والعلم.
وأشير هنا إلى أن بعض الفلاسفة المشائين لم يقولوا بالجمع بين الشريعة والفلسفة اليونانية، وإنما سعوا إلى تكريس الفلسفة وإبعاد الشريعة نهائيا، على رأسهم وزير هولاكو نصير الدين الطوسي (ت 672هـ)، فإنه رفع -في دولة المغول- مبدأ تكريس معارضة العقل للشرع باسم الفلسفة المشائية، وسعى إلى إبطال الشريعة وإحلال محلها فلسفة أرسطو وشيعته، وزعم أن فلسفته عقليات قطعية برهانية تعارض النقليات الخطابية.
وكلامه هذا باطل ولعب بالألفاظ، لأن كلام الله تعالى حق بذاته، وكلام المشائين وغيرهم من الناس، هو الكلام الخِطابي المبني على الأهواء والظنون والسفسطات الجدلية، والاحتمالات النظرية، لكنه -أي الطوسي- مع ذلك كان صريحا مع نفسه منطقيا معها، أدرك أن فلسفة المشائين لا يمكن الجمع بينها وبين شريعة الله، فاختار الطريق الذي آمن به؛ عكس غيره من المشائين الذين خلّطوا ولفّقوا وتناقضوا في زعمهم الجمع بين الشريعة والفلسفة اليونانية، مع أن باطنهم خلاف ذلك، لأن انتصارهم لم يكن للدين، وإنما كان للأرسطية المشائية، فتظاهروا بحكاية الجمع المزعومة انتصارا لتلك الفلسفة لا للإسلام. وقد ساعده -أي الطوسي- على إعلان موقفه صراحة والسعي في تطبيقه أنه كان وزيرا في دولة تقوم على الفلسفة المشائية.
ويرى الحافظ شمس الدين الذهبي أن سعي الفلاسفة المشائين للجمع بين الشريعة وفلسفة اليونان، هو عمل خاطئ، لأنه لا يمكن الجمع بينهما، ومن رام الجمع بين علوم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وعلوم الفلاسفة، فلابد أن يخالف الاثنين، ومن كفّ ومشى خلف ما جاءت به الرسل، سلم له دينه ويقينه. ثم قال: (ولقد شرّف الله الإسلام وأوضح حججه، وقطع العذر بالأدلة، وما مثل من نصر الإسلام بمذاهب الفلاسفة والآراء المنطقية، إلا كمن يغسل الثوب بالبول).
ونحن نتساءل: ما هي الأسباب التي أدت بالفلاسفة المسلمين المشائين إلى السعي للجمع بين الشريعة وفلسفة اليونان والمزج بينهما؟ وما هي أهدافهم من ذلك؟ يبدو أن هناك أربعة أسباب أساسية متداخلة أدت بهؤلاء إلى سلوك ذلك المسلك، وهي قد تصدق عليهم كلهم أو على بعضهم. أولها: انبهارهم بالفلسفة اليونانية وسلبيتهم تجاهها، دفعهم إلى إرجاع كل شيء إلى تلك الفلسفة بما فيها دين الإسلام.
وثانيها: ضعف إيمانهم بدينهم جعلهم يبحثون له عن مؤيدات ودلائل من خارجه لتدعيم وتقوية إيمانهم به، فوجدوها -حسب اعتقادهم- في الفلسفة اليونانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *