المقاومة السنية العلمية للفلسفة اليونانية -خلال العصر الإسلامي- الكشف عن الانحرافات السلوكية لرجال الفلسفة اليونانية

ذكرنا اثنين من طائفة كبار المتكلمين الذين توسّعوا في الفلسفة وتأثروا بها تأثرا كبيرا، فهم ينتمون لأهل السنة من جهة، وإلى أهل الفلسفة من جهة أخرى، لذلك انتقدهم بعض كبار علماء أهل السنة انتقادا لاذعا، في بعض أفكارهم وسلوكياتهم.
وثالثهمَ المتكلم المفسر فخر الدين بن الخطيب الرازي (ت606هـ)، ذكر عنه ابن تيمية أنه صنف كتبا لذوي السلطان والمال بما يوافق أهواءهم، من ذلك كتاب الملخّص في الفلسفة، كتبه لأحد وزراء زمانه يُعرف بزهير، وكتاب أحكام النجوم صنفه لملك وقته علاء الدين بن محمد بن جلال الدين، وألف له أيضا كتاب: الرسالة العلائية في الاختيارات السماوية، ذكر منها اختيارات شرب الخمر.
وألف -أي الرازي- أيضا كتاب السحر وعبادة الأوثان لأم الملك علاء الدين، وقيل أنه صنف لها أيضا كتاب آخر عنوانه: السر المكتوم في دعوة الكواكب والنجوم والسحر والطلاسم والعزائم، فأعطته ألف دينار، وكان هدفها منه الاستفادة مما فيه من السحر والعجائب لقضاء مآربها الدنيوية، وقد ذكر في كتابه هذا الشرك الصريح من عبادة الكواكب والجن والشياطين؛ وعمله هذا -في نظر ابن تيمية- ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، لأنه حسّن عبادة الكواكب والأصنام ودافع عنها، ورغّب فيها، لكنه ربما تاب عن ذلك وعاد إلى الإسلام.
وذكر -أي ابن تيمية- أن في كتب الفخر الرازي كثير من الضلال والجهل ما لم يكن يُظن أنه يقع في ذلك، ومثاله أنه صنف كتابا في معراج رسول الله عليه الصلاة والسلام، سار فيه على طريقة الفيلسوف أبي علي بن سينا، وفسره بتفسيرات الصابئة الضالين المنجمين، وجعل معراجه ترقيا بالفكر إلى الأفلاك، والذين رآهم من الأنبياء هم كواكب، فآدم هو القمر، وإدريس هو الشمس، وزعم أن ما قاله هو من الأسرار يجب صونه عن أفهام المؤمنين وعلمائهم، فعل كل ذلك دون أن يرجع إلى كتب العلوم الإسلامية، من حديث وفقه وتفسير وسيرة، وحتى الأحاديث الضعيفة والموضوعة لم يرجع إليها.
وعمله هذا جعل الناس يتعجبون منه، حتى أن بعض المتعصبين له أنكر أن يكون الرازي صنف هذا الكتاب، فأراه بعض الناس نسخة من الكتاب بخط المشايخ المعروفين الخبيرين بخط الرازي، كتبها الرازي نفسه ضمن كتابه: المطالب العالية.
وقال الحافظ الذهبي أن في مؤلفات الفخر الرازي بلايا وعظائم، وسحر وانحرافات عن السنة، وقال الحافظ بن حجر العسقلاني عن كتابه -أي كتاب الرازي-: السر المكتوم في مخاطبة النجوم، هو سحر صريح، فلعله تاب عنه إن شاء الله تعالى.
لكن مع ذلك فقد رُوي أن الرجل قد تاب عما كان فيه، فذكر الحافظ الذهبي أن الفخر الرازي تاب في آخر حياته، ورجع إلى طريقة القرآن وفضّلها على طريقة المتكلمين والفلاسفة، فقال أنه: (تأمل الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، ما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات (الرحمن على العرش استوى)، وأقرأ في النفي (ليس كمثله شيء)، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي)، وذكر الحافظ ابن حجر أن الرازي تاب في آخر حياته، وأوصى وصية تدل على حسن اعتقاده.
وآخرهم -أي الرابع- المتكلم سيف الدين الآمدي (ت631هـ)، قال عنه الحافظ شمس الدين الذهبي: توسع في علوم الأوائل فرقّ دينه وأظلم، وروى أن جماعة من طلابه شكوا فيه أيصلي أم لا؟ فلما نام جعلوا على رجله علامة بالحبر، فبقيت على رجله يومين دون تغير، فعرفوا أنه لم يتوضأ، ولا ندري أكان لا يصلي، أم كان يتيمم للصلاة في هذين اليومين؟
ويُستنتج مما قلناه، أن الغالبية العظمى من الفلاسفة الذين ذكرناهم كانوا منحرفين فكرا وسلوكا، منهم ثلاثة ذكرت الروايات أنهم تابوا عما كانوا فيه، وهم ابن سينا والغزالي والفخر الرازي، فماذا يعني ذلك؟ وكيف نتعامل مع تراثهم الفكري الذي صنفوه قبل توبتهم؟
هذا ما سنعرض له بحول الله تعالى وقوته في الحلقة القادمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *