نقد موقف ابن رشد في تأويله للشريعة

نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد
على ضوء الشرع والعقل والعلم -دراسة نقدية لكشف حقيقة فكر ابن رشد-

اتبع ابن رشد الحفيد (ت 595هـ) أسلافه المؤولين من الفلاسفة والمتكلمين، في تأويلهم للنصوص الشرعية، لتتفق مع اتجاهاتهم واختياراتهم المذهبية المخالفة للشرع، ويُعد هو-أي ابن رشد- من أكثرهم اهتماما بالتأويل، وممارسة له، فما هو مفهومه للتأويل؟، وما هي تفاصيل مذهبه فيه؟
أولا: معنى التأويل: لغة، وشرعا، واصطلاحا:
ذكر ابن منظور الإفريقي أن معنى التأويل في اللغة العربية هو: التفسير، والتدبير، والتقدير، ومآل الشيء الذي يصير إليه، و عبارات: التأويل، والمعنى، والتفسير معناها واحد، وأما معناه في الشرع، فله معنيان: أولهما حقيقة الشيء و ما يؤول أمره إليه، كقوله تعالى: (َقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حقا) سورة يوسف: 100 و(هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) سورة الأعراف: 53، بمعنى يوم يأتي حقيقة ما أُخبروا به من أمر المعاد، والمعنى الثاني هو: التفسير والبيان، والتعبير عن الشيء، كقوله تعالى: (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) سورة يوسف: 36.
وأما معناه عند السلف من المفسرين والفقهاء والمحدثين، فمعناه التفسير والبيان، وبهذا المعنى عرف هؤلاء معاني القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وأما معناه عند المتأخرين، من المتكلمين والأصوليين فهو: (صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته، إلى مجازه وما يُخالف ظاهره، و هذا هو الشائع عندهم)، لذا يُقال: (التأويل على خلاف الأصل)، و(التأويل يحتاج إلى دليل)، وهذا المعنى لم يكن السلف يُريدونه بلفظ التأويل، ولا هو معنى التأويل في كتاب الله تعالى.
ويتبين من ذلك أنه يُوجد تطابق تام بين معنى التأويل في الشرع واللغة، وأن علماء السلف أخذوا بالمعنى الشرعي و اللغوي للتأويل، المتمثل في التفسير والبيان والشرح، الأمر الذي يدل على أن المعنى الصحيح للتأويل هو ما وافق الشرع أولا، واللغة العربية ثانيا، وما كان عليه السلف الأول ثالثا، وما خالف ذلك فهو باطل، وتحريف للنصوص الشرعية وتلاعب بها، وهو التأويل الذي قال به المتأخرون.
ثانيا: مفهوم التأويل و أسبابه عند ابن رشد:
عرّف ابن رشد التأويل بأنه (إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يُخَل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوّز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مُقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عُددت في تعريف أصناف الكلام المجازي).
وأقول: أولا إنه عرّف التأويل تعريفا غير صحيح شرعا ولا لغة، ولا هو موافق لمعناه عند السلف الأول، فلم يجعله تفسيرا، ولا بيانا، ولا شرحا، ولا ما يصير إليه الأمر، وإنما جعله عملية فكرية تُخرج الألفاظ من دلالتها الحقيقة إلى مجاز، و المجاز في اللغة العربية هو: استعمال اللفظ في غير ما وُضع له، مع وجود قرينة مانعة من إرادة المعنى المذكور في ذلك اللفظ، فالتأويل الصحيح في أصله ليس مجازا، اللهم إلا إذا أولنا المجاز بمعنى التفسير والشرح والبيان.
وثانيا إن تعريفه للتأويل يُؤدي إلى تحريف النصوص الشرعية والتلاعب بها، عندما نصّ على أن التأويل هو: إخراج للفظ من دلالته الحقيقية إلى دلالته المجازية، مما يعني إخراجه إلى دلالة مغايرة لدلالته الحقيقية، وهذا في الحقيقة ليس مجازا، وإنما هو تحريف، لأن المجاز هو أسلوب عربي من أساليب التعبير عن الحقيقة بطريقة بيانية بلاغية، وليس نفيا لها، كقوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا) سورة يوسف: 82، وبما أن القرية ليست إنسانا لكي نسألها، فالمعنى هو أسأل أهل القرية، فهذا المجاز -عند من جعله مجازا- عبّر عن حقيقة بهذا الأسلوب، فهو ليس نفيا لها.
ومن ذلك أيضا قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: (الجنة في ظلال السيوف)، فالذي لا شك فيه هو أن الجنة لا تُوجد حقيقة وعيانا تحت ظلال السيوف، لكن الحديث النبوي عبّر عن حقيقة شرعية هي أن الجهاد طريق موصل إلى الجنة، وأن الجهاد له مكانة هامة في دين الإسلام.
ومن ذلك أيضا قولنا عن الرجل الشجاع إذا قدم إلينا: جاء الأسد، فعبّرنا عن صفة الشجاعة فيه بالأسد، فوصفناه بصفة تحمل حقيقة لتصف حقيقة متصف بها هذا الرجل، فهو ليس أسدا بمعنى الحيوان، لكنه أسد بمعنى أنه مُتصف بصفة الشجاعة التي هي أخص صفات الأسد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *