ناقشنا في المقال السابق الطغيان السياسي للكنيسة، التي كان المتضرر منها في هذه الحالة أصحاب الكراسي والمناصب.
واليوم نعرض أحد صور التسلط والنفوذ لرجال الكنيسة على عقل المجتمع الغربي وهو الطغيان العلمي.
مارست الكنيسة في هذا المجال سياسة احتكار العلم والهيمنة على الفكر البشري بأجمعه.
يقول برنتن: “إن أكثر أصحاب الوظائف العلمية حتى في أوج العصور الوسطى كانوا ينتمون إلى نوع من أنواع المنظمات الدينية، وكانوا جزءاً من الكنيسة، حيث إن الكنيسة بدرجة لا نكاد نفهمها اليوم تتدخل في كل لون من ألوان النشاط البشري، وتوجهها وبخاصة النشاط العقلي” أثر العلم في المجتمع، ص:6.
ولما كان العلم والفلسفة في ذلك العصر شيئاً واحداً؛ فقد أدمج الفلاسفة النصرانيون في صرح فلسفتهم كل ما وصل إليه العلم البشري في عصرهم من النظريات الكونية والجغرافية والتاريخية، ورأت الكنيسة في هذه الفلسفة التوفيقية خير معين للدفاع عن تعاليمها ضد المارقين والناقدين (المشكلة الأخلاقية والفلاسفة ص: 101)؛ فتبنتها رسمياً، وأقرتها مجامعها المقدسة، حتى أضحت جزءاً من العقيدة النصرانية ذاتها، وامتدت يد التحريف فأدخلت بعض هذه المعلومات في صلب الكتب الدينية المقدسة.
يقول التاريخ الأوربي: “إن الكنيسة قد فزعت فزعتها تلك حفاظًا على كيانها، الذي يقوم على الخرافة ويستند إلى انتشار الجهل بين الجماهير، وإنها خشيت على هذا الكيان أن يتصدع وينهار إذا انتشر العلم، وتبين الناس أن ما تقوله الكنيسة ليس هو الحقيقة المطلقة في كل شيء”.
ولكن هذه المقالة تهمل شيئين مهمين في هذا الشأن:
أولهما عن غفلة والثاني عن قصد
أما الأول: فهو أن آباء الكنيسة ورجالها كانوا مخلصين في صيحتهم -في أول الأمر على الأقل- لأنهم كانوا يتصورون أن ما جاء في التوراة حقيقة، وأن تفسيرهم له هو الصحيح، وسبب ذلك هو الجهالة التي كانت مخيمة على أوروبا كلها وعلى رجال الدين فيها بصفة خاصة.
أما الأمر الثاني الذي يغفله المؤرخون الأوروبيون عن عمد رغم ظهوره، أن هذا العلم الذي أعلنت عنه الكنيسة الحرب كان آتيًا من مصادر إسلامية، وكان يحمل معه خطر انتشار الإسلام في أوروبا، ومن ثم انهيار الكنيسة ذاتها حين ينهار الدين الذي تمثله وتدعي حمايته.
يقول ألفارو (كاتب نصراني إسباني عاش في القرن التاسع الميلادي): “يطرب إخواني المسيحيون لأشعار العرب وقصصهم، فهم يدرسون كتب الفقهاء والفلاسفة المحمديين لا لتفنيدها بل للحصول على أسلوب عربي صحيح رشيق..
واأسفًا! إن شباب المسيحيين الذين هم أبرز الناس مواهب، ليسوا على علم بأي أدب ولا لغة غير العربية، فهم يقرؤون كتب العرب، ويدرسونها بلهفة وشغف، وهم يجمعون منها مكتبات كاملة تكلفهم نفقات باهضة، وإنهم ليترنمون في كل مكان بمدح تراث العرب، وإنك لتراهم من الناحية الأخرى يحتجون في زراية – إذا ذكرت الكتب النصرانية- بأن تلك المؤلفات غير جديرة باحترامهم” (حضارة الإسلام، لفون جرونيباوم، ص:81- 82).
بالنسبة للصراع بين الكنيسة والعلماء فقد صار ذلك الصراع على مرحلتين:
أولاً: مطلع العصر الحديث والقرن السابع عشر: “نظرية كوبرنيك (عالم فلكي بولندي برهن على دوران الكرة الأرضية على ذاتها وحول الشمس، 1473-1543م)، والاختلاف حول مركز الكون”.
وبعد كوبرنيك جاء رجل آخر وهو “جردانو برونو” (فيلسوف إيطالي 1548-1600م كان من أوائل الرافضين لفلسفة أرسطو في علم الكون، اتهم بالإلحاد وأحرق سنة 1600م) بعث النظرية بعد وفاة صاحبها.
وبعد قتل “جردانو” ببضع سنوات كان “جاليلو” (عالم فلكي إيطالي 1564-1642م) قد توصل إلى صنع “التلسكوب”؛ فأيد تجريبياً ما نادى به أسلافه نظرياً، وكان ذلك مبرراً للقبض عليه ومحاكمته.
ونعرض في المقال القادم بإذن الله للمرحلة الثانية، والتي قطعت نصف الطريق لقيام الثورة الفرنسية ونستهلها بنظرية نيوتن.