يقول أحمد عصيد:
(الشرارة الأولى للفتنة كانت قول الخليفة عثمان في ردّه على منتقديه السياسيين الذين طالبوا بخلعه: “والله لن أخلع قميصا ألبسنيه الله !”، فحوّل بيعة الناس له إلى تفويض إلهي).
كعادة أحمد عصيد في طي الحقائق تحت بساط التدليس، حاول محاولة فاشلة لاستعمال قانون الطفرة في عرض الأحداث، لكنه يستعمل هذه المرة الخليفة عثمان والفتنة الكبرى، ويعرضها (موجزا للأخبار) فيفسد معالمها ويضيع إحداثياتها في التاريخ والفكر.
جعل أحمد عصيد قول عثمان لمن أراد خلعه (والله لن أخلع قميصا ألبسنيه الله) ردا على منتقدين سياسيين! وأنه بذلك كان يعبر عن طبيعة تصوره للخلافة وأنها تفويض إلاهي لا بيعة.
وعلى هذا ملاحظات كثيرة أجتزئ منها التالي:
الانتقاد السياسي
جعل أحمد عصيد من أراد خلع عثمان منتقدين سياسيين، وهذا إما كذب أو جهل، والذي حصل أن طائفة من الناقمين على الاستقرار السياسي والاجتماعي اتفقوا على ضرب الخلافة الإسلامية، ظنا منهم لغبائهم أن ذلك يعني سقوط الإسلام، وذوبان الاستقرار في خمر الظلم والاستعباد مرة أخرى، وقد ثبتت الروايات أن كل ما حصل، بدء بالمطالبة بخلعه إلى قتله كان مكرا ومكيدة دبرت خفية.
والدليل على ذلك أن عثمان جالس هؤلاء وفاوضهم، فلما شكوا إليه صنيع بعض ولاته استجاب لهم، ووافقهم على جملة مطالبهم، ونجح سياسيا ودبلوماسيا في إفشال المحاولة الأولى لإحراجه، لكنهم اتفقوا على القفز على هذه الهزيمة السياسية إن صح التعبير والانتقال إلى أسلوب الكيد مرة أخرى؛ فادعوا أنهم قبضوا على رسول عثمان إلى واليه بمصر بقتل الثوار المصريين العائدين إليها، فزوروا رسالته وعادوا إلى المدينة مبدين سخطهم على عثمان بسبب غدره!
والعجيب أنهم وجدوا العراقيين الذين كانوا منهم قد عادوا هم أيضا بدون سبب، فلم يدعوا أنهم قبضوا على رسول لعثمان، فكان ذلك دليلا على مكرهم، فإن اللص لا بد أن يرتكب خطأ يوقع به، ولذلك قال علي لأهل العراق: (كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بما لقي أهل مصر، وقد سرتم مراحل ثم طويتم نحونا، هذا والله أمر أبرم بليل). وفي رواية: [بالمدينة]!
فهل هذه أخلاقيات المعارضين السياسيين، أم هو أسلوب الملاحدة، وربما أسلوب تلامذتهم من بني علمان.
لقد كانت بلاد الإسلام في زمن عثمان قد بلغت من الرخاء الاقتصادي والسلم الاجتماعي حدا أثار حفيظة أهل الفساد ممن ينقمون على الإسلام قدرته على صناعة الحضارة وإقامة الدولة والرقي بالمجتمع على المستويات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وهكذا يضع أحمد عصيد قلمه على فضيحة أخرى لأعداء الشريعة الإسلامية.
بين البيعة والتفويض الإلهي
أما أن عثمان كان يعتقد التفويض الإلهي، ففي أي شيء فوض إلاهيا، فعثمان لم يعامل هؤلاء المعارضين إلا بقوانين الديبلوماسية والسياسة التي تحرج بني علمان، صحيح أن عثمان بن عفان كان يرى نفسه (مفوضا!) في رعاية مصالح الناس في دينهم ودنياهم، والاجتهاد في حماية دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ودوابهم كما هو حال كل حاكم عادل يخشى الله تعالى ويراقبه في معاملة شعبه، ولا يحتاج إلى قوانين تتابعه وتراقبه، فيتحايل عليها، بالقانون نفسه.
لو كان عثمان يرى لنفسه (الحق الإلهي) في التعرض لمنتقديه بالقوة وصفائح السيوف -كما يفعل بنو علمان حينما تعوزهم الطرق الحضارية- لكان انتهى أمرهم بإشارة واحدة، من الخليفة، المفوض الإلهي، لكنه منع أن يُتَعرض لهم بسوء، بل عرض نفسه للقتل، حقنا لدماء المسلمين، لكنه لم يكن ليتنازل عن منصبه، لا هوى وإنما وحيا.
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة عند الترمذي (3705) وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان: (يا عثمان إنه لعل الله يقمصك قميصا فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه)..
فموقف عثمان كان موقفا شرعيا تعبديا لا سياسيا، ولذلك بوب له ابن حبان بقوله: (ذكر الخبر الدال على أن عثمان بن عفان عند وقوع الفتن لم يخلع نفسه لزجر المصطفى) وبسببه قتل رضي الله عنه على يد (منتقديه السياسيين) وهو في الثمانين من عمره.
بئس الانتقاد السياسي هذا الذي يكون نتيجته قتل الحاكم، ذي الثمانين من عمره دون أدنى مقاومة، وهو صائم يقرأ القرآن!
فهل هذا هو مستوى الانتقاد السياسي الذي يريده أحمد عصيد!
أخشى أن يكون الجواب نعم.
لم يكن عثمان يرى أن معنى هذا (التفويض الإلهي) الاستبداد على الطريقة الكهنوتية الأوروبية وإلا ما جالس (منتقديه السياسيين) وقبل شكواهم وطاوعهم، وما قال للناس وهو (المفوض الإلهي): (إن وجدتم في كتاب الله عز وجل أن تضعوا رجلي في القيد فضعوها). رواه عبد الله في زوائد المسند (1/72/مؤسسة قرطبة) بإسناد صحيح عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عنه.
هؤلاء حكام الإسلام، فهل يعرف أحمد عصيد حاكما علمانيا مثله!
ولكنها تعمى القلوب التي في الصدور!