لقد وصف القرآن الكريم في الآيات الأولى من سورة البقرة ثلاث طوائف عايشت بعضها بعضا في بدء الهجرة المحمدية إلى المدينة. وهذه الأصناف من البشر وجدت في كل جيل مضى وتوجد في كل جيل لاحق، فوصف القرآن الكريم وصف كاشف لها في جميع الأجيال والعصور.
تلك الطوائف الثلاث هي طائفة المؤمنين الذين أكرمهم الله بالإيمان فساروا على هدي الأنبياء والرسل وطبقوا التعاليم الإلهية على حياتهم الخاصة وعلى حياتهم العامة، ثم طائفة الكافرين الذين تمردوا على طاعة الله وتنكروا لهدايته وأشهروا الحرب بالقول والفعل على دعوته، وأخيرا طائفة المنافقين الذين هم أخطر على المؤمنين من الكافرين، والذين يلعبون أدوارا شيطانية جهنمية ملتوية تخفى على الكثير من الناس حتى على أذكاهم، ولشدة خطر هذه الطائفة جعل الله عقابها أشد عقاب، فقال: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا) .
فهذه الطوائف الثلاث التي عايشت كل الرسالات، وعاصرت جميع الدعوات ألقى عليها التنزيل الحكيم من أضوائه القوية ما كشف عنها القناع، فوضح صفات المؤمنين التي لا لبس فيها ولا غموض في أربع آيات: (فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) ، ووضح سمات الكافرين المعلنين بالكفر في آيتين: (إن الذين كفروا سواء عليهم آنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) ، ثم تفرغ لوصف الطائفة الثالثة؛ طائفة المناققين فأطال فيها الحديث وخصص للكشف عن نفاقها ثلاث عشرة آية كاملة، ابتداء من قوله تعالى: (ومن الناس من يقول ءامنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) ، إلى قوله: (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير) .
وحديث القرآن الكريم عن هذه الطائفة الخطيرة ركز على بيان صفاتها وتوضيح علاماتها الاعتقادية، والأخلاقية، والنفسية. ومن علامات النفاق وصفات المنافقين وعلاماتهم الاعتقادية التي ذكرها كتاب الله:
-1- الكفر؛ فالمنافقون وإن أظهروا الإسلام فباطنهم ينطوي على اعتقاد الكفر، ذلك أنهم دائما يودون للمؤمنين الكفر ويتمنون لهم أن يكفروا ليكونوا مثلهم. قال تعالى: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) ، ومن أنواع الكفر عند المنافقين كما وصف ذلك كتاب الله العزيز:
– كفر الشك؛ وهو تردد المنافقين في اتباع الحق، أو ترددهم في كونه حقا، كما قال تعالى عنهم: (إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون) .
– كفر الاستكبار؛ وهو شبيه بكفر إبليس الذي لم يجحد أمر الله، ولكن قابله بالإنكار، فالمنافقون يعلمون أن الإسلام هو دين الحق الذي لا يقبل الله سواه، وأنه الدين الذي فيه صلاح البشرية جمعاء في الدنيا والآخرة، ولكن يتركونه استكبارا وتعاليا على الله وعلى شرعه، ويتخذون بدله دينا أو مذهبا من وضع البشر. قال تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون) .
-2- التحاكم إلى الطاغوت؛ إن المنافقين في كل زمان ومكان يكرهون التحاكم إلى شرع الله ويستنكرون ذلك، باعتباره يتعارض مع شهواتهم وأهوائهم الدنيوية، وعادة ما يشككون في جدوى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وصلاحها للتطبيق في واقعهم، سعيا منهم لهدم الإسلام ونقض أركانه وأصوله وكلياته. قال تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا) .
-3- الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف؛ إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل عظيم من أصول الإسلام. وتمام طاعة الله ورسوله تتوقف على تفعيل هذا الأصل الذي به كانت أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس، كما قال الله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) .
لكن المنافقين الأولين منهم والآخرين الذين استحوذ عليهم الشيطان وقبلوا سيطرته قلبوا هذه الحقيقة، واعتقدوا أن ما جاء به الإسلام من أحكام وتشريعات ومواعظ وتوجيهات تقيد من حرياتهم وتصرفاتهم، وبذلك انقلبت معايير الأمور لديهم، فأصبح المعروف لديهم منكرا والمنكر معروفا، وكل ذلك سعيا منهم لنشر الفتن في المجتمع، ليزداد عدد المنحرفين وتتفشى الفواحش والرذائل ويستطيل الشر.
قال تعالى: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم) .
-4- موالاة الكافرين؛ لقد ذكر القرآن الكريم أن من صفات المؤمن أن يوالي ويناصر إخوانه المؤمنين أمثاله، يسره ما يسرهم ويحزنه ما يحزنهم. قال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) ، ثم نهى الحق سبحانه المؤمنين أن يوالوا اليهود وأشباههم من الكفار والمنافقين ولاية ودّ ومحبة ونصرة على حساب المسلمين والمؤمنين. ولهذا كان أول مظهر من مظاهر النفاق أن يتخذ المنافق الكافر وليا يستقوي به ويستنصر على المؤمنين. قال تعالى: (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا) .
-5- ادعاء الإيمان؛ إن ادعاء الإيمان أخطر قضية من قضايا الوجود، وهي من أبرز سمات المنافقين الاعتقادية التي حرص القرآن الكريم على بيانها، فهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، ويتظاهرون بأفعال الخير وهم أفسد الناس باطنا، ويتصايحون بشعارات الإيمان والإسلام ويدعونه ادعاء كاذبا، ويظنون بذلك أنهم يخفون على الله ويخدعونه، ففضح الله مكرهم وهتك سترهم وكشف عورتهم، فقال تعالى: (ومن الناس من يقول ءامنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين ءامنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون) .
-6- الصد عن سبيل الله؛ إن عقيدة المنافقين منطوية على الصد عن سبيل الله، باعتماد جميع الوسائل والطرق بما في ذلك وضع العقبات أمام انتشار الدعوة الإسلامية. قال تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) ، وكل ذلك من أجل أن تحل بالمجتمع الإسلامي المصائب والويلات، وهي مصائب إذا حلت جاؤوا إلى المؤمنين يحلفون أنهم ما قصدوا بفعلهم إلا الإحسان والتوفيق. قال تعالى: (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا) .
-7- التهاون في أداء العبادات ومنها الصلاة؛ إن الصلاة فريضة على كل مسلم ومسلمة، والله تعالى رخص لنا فيها كل ما من شأنه أن يجعلنا أكثر حرصا على أدائها، ليقطع الطريق على الكسالى المتهاونين، وحذرنا من التقصير والتهاون فيها.
ولا شك أن هذا التهاون من أقبح صفات المنافقين -المبنية على عقيدة التهاون في أداء العبادات وشعائر الإسلام- الذين يؤدون الصلاة ستارا يخفون به ثقافتهم ولا يقومون لها شوقا للقاء ربهم كما يفعل المؤمنون. قال تعالى: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا) .
تلك هي إذن بعض علامات النفاق وأوصاف المنافقين الاعتقادية الفكرية كما بينها القرآن الكريم ليحذر منها المؤمنون، ويطهروا اعقاداتهم وأفكارهم منها، ويتبينوا من خلالها المنافقين الأولين منهم والآخرين ويعرفوا علاماتهم وأوصافهم، لينجوا من حيلهم ومكائدهم التي يكيدونها باستمرار للإسلام والمسلمين، وحيلهم هذه كلها مبنية على المكر والخداع والتمويه والتضليل، سلكوها في عصور الإسلام الأولى ولا زالوا يسلكونها كلما بدا لهم أن الإسلام بدأت تعاليمه تحيا في نفوس أتباعه، وأن أهل الحق المتشبثين بهديه المدافعين عن حقائقه وتوجيهاته سطع نجمهم في الأفق، وصاروا نماذج يقتدى بهم في الأقوال والأفعال.