موجز تاريخ (اللحية) السياسي ذ.طارق الحمودي

أكتب هذا المقال التاريخي ردا على من يحاول تصوير حلق اللحية على أنها فعل حضاري؛ في مقابل تصوير إعفائها على أنه رمز للتخلف والرجعية! 

أكتبه بيانا للتزييف والتدليس التاريخي والثقافي..! ولن أتحدث عن حكم حلقها أو إعفائها في الشرع.. فقد حسم الأمر.
ولست أتحدث عن شعيرات تنبت على الوجه دون كلفة؛ بل أتحدث عن شيء صار اليوم شعارا وأيقونة للصراع الحضاري بين من ينتمي إلى منهج الأنبياء وبين أعدائهم.
فاقرؤوا تاريخ اللحية!
كانت عادة توفير اللحية عادة منتشرة بين الرجال في الحضارات القديمة، بل كان كثير من الأمم والثقافات يعتبرها رمزا للرجولة وشعارا للنبل وأمارة على مكانة موفرها. وكانت دائما ما تقرن بالحكمة والعلم والقوة الروحية، لم لا وهي عادة الأنبياء والصالحين؟
فوفرها الملوك والفلاسفة ورجال الدين وقواد الجيش والنبلاء إلى وقت قريب جدا جدا!
واستمر الأمر على هذا في احترام اللحية بتوفيرها وتزيينها -أحيانا- أزمنة طويلة، بل كان مسها في بعض الثقافات من رجل آخر علامة على حسن النية والوفاء، فإنها كانت تنمو في أشرف مكان من الإنسان!!
وكان حلقها أمرا شاذا في تلك الحقب من تاريخ الناس! واستغرب صاحب كتاب (Mémoires pour servir à l’Histoire de la Barbe de l’Homme) أن ينتقل الأمر من اعتبارها رمزا للنبل والكرامة والحكمة إلى أن تختفي في زماننا بدون مسوغ مقبول! وهذا الكتاب ماتع بمعلومات كثيرة وفيه يذكر مصنفات كتبها مؤرخون وكتاب وعلماء غربيون عن اللحية.
فقد كان الإسبارطيون اليونانيون يعتبرون حلقها مهينا للكرامة ويدينون فاعل ذلك وكانوا يحلقون لحية الجندي الذي يفر في المعركة إشعارا له بالذل.
وكانت أية محاولة لفرض حلقها على الناس تجد نوعا من المقاومة الطبيعية والفطرية والسياسية أحيانا.
والكل ينبغي أن يتفق أن حلق اللحية أمر جديد على الإنسانية مخالف لفطرتها، فلم يكن أحد يستنكف من توفيرها وإعفائها بل كانوا -كما قلت- يتفاخرون بها.
وكان من أوائل من دعا إلى حلقها وحلق شعر الرأس معها بأمر عسكري الإسكندر المقدوني اليوناني، فقد أمر جنوده بحلقهما أيام زحفه على المملكة الشرقية خوف أن يستغلها العدو فيجر منها الجنود أثناء الالتحام الجسدي في المعركة! مع التنبيه على أنه استمر توفيرها في اليونان حينها لكن مع الأخذ منها وتقصيرها فلا يمكن أن ينتقل شعب من ثقافة التوفير إلى ثقافة الحلق بهذه السرعة واليسر، وما كان يستطيع اليوناني أن يحلقها بعد أن كان يوفرها إلا مرغما أو للضرورة كما يقول بعض المؤرخين.
وكانت اللحية أمرا معتادا في الثقافة الرومانية إلى حدود عام 454 من التاريخ الروماني وكان سيبيون الإفريقي أول من ابتدع بدعة الحلق اليومي لها.
ثم استقر الأمر عند الرومان أن لا يبدأ الشاب في حلقها إلا عند بلوغ الواحدة والعشرين من عمره ثم يكف عن حلقها لزوما عند بلوغه التاسعة والأربعين! وكان حلقها قربى إلى كثير من آلهتهم خصوصا (جوبيطير).
فإلى من يتقرب حالقوها اليوم من المسلمين!؟
وكان الأمر بحلقها في بعض العصور الرومانية إظهارا للسيطرة على الشعب وإرغاما له على الإحساس بالدونية أمام الدولة وقدرتها على السيطرة على أرواح أتباعها، ووصف بعض الكتاب ذلك بأنه (هجوم على اللحية)!
وكان المصريون يحلقونها ولا يتركون منها إلا يسيرا على ذقونهم، واستشهد بعض المؤرخين بالرسومات الحائطية والمنحوتات والتماثيل والآثار المتبقية على المومياوات!
وكان ملوك بابل يظفرون لحاهم وزاد الفرس على ذلك أنهم كانوا يزينونها بخيوط ذهبية، وهذا أمر تشهد له رسومات البابليين والفرس على جدران هياكلهم ومعابدهم وقصورهم. ثم قصوها بعد ذلك.
كما كان بعض ملوك فرنسا يزينونها ببعض القطع الذهبية!
ولاحظ بعضهم أن الأباطرة الرومانيين الأربعة عشر الأول كانوا يحلقونها إلى عهد القيصر أدريان الذي أعاد إلى الثقافة الرومانية عادة إعفائها، وعللوا ذلك بقصده إخفاء بعض التشوهات في وجهه.
وكان القوطيون والفرنسيون يحلقون أيضا ولا يوفرون إلا الشوارب إلى أن أمر (كلودين) الفرنسيين بإعفاء اللحى وشعور الرأس ليتميزوا عن الرومانيين.
وكان حلقها عند الإسرائيليين في بعض العصور علامة على الحداد على قريب؛ لكنه كان ممنوعا على الأحبار منهم؛ وعلامة على الحزن خوفا على الجمهورية من أعدائها عند الرومان!
وكان الصينيون على ضعف لحاهم يتكلفون توفيرها وتعاهدها، وكانوا يمنعون الفتى قبل الزواج من إعفائها بشكل ظاهر فإذا صار جَدّا سمح له بإعفاء كامل!!
وكان الروس يعفونها إعفاء ظاهرا زمنا طويلا إلى أن خرق عادة توفيرها القيصر الروسي بيير الأول، لكنه وجد نوع مقاومة لذلك من كبار المحيطين به أحيانا.. لأنهم كانوا يعفونها بشهامة ونبل!!
وبسبب الخلاف الذي حدث بين الكنيسة الكاثوليكية والأرثدوكسية الشرقية صار الكاثوليك يحلقون لحاهم قصدا لمخالفتهم وينحتون بعض قديسيهم بغير لحى، الأمر الذي كان يرفضه الأرثودوكسيون فكانوا يعفون عن لحاهم كما في الكنيسة المصرية والروسية واليونانية اليوم.
واللحية واجبة في الديانة النصرانية واليهودية …رغم محاولات طمس معالمها الدينية!
ولا تزال بعض الطوائف تحرص على إعفائها.
ففي سيبيريا الروسية لا تزل طائفة نصرانية أرثودوكسية تفرض ذلك على الرجال وتفرض على الفتاة إن بلغت عشرين سنة أن تتحجب كما في مجلة (المختار) الأمريكية من عدد قديم.
وكذلك الأميش الأمريكيون في (بينسيلفانيا) فإنهم يعفونها ويطيلونها ويحلقون شواربهم وهم طائفة مهاجرة من أوروبا من بقايا الحركة الإصلاحية هربا من الاضطهاد الكاثوليكي الأوروبي. وأما اليهود الحسيديم الأرثودوكس فأمرهم معروف اليوم، وكذلك الهندوس.
وأما في البلاد العربية فقد كانت عادة إعفاء اللحية جزء من الثقافة البدوية والأدبية عندهم، واستمر الأمر إلى أن بدأ المسلمون احتكاكهم بالحضارات المجاورة وقد صح أن كسرى بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمبعوثين قد حلقا لحيتيهما كما هو حال العبيد عندهم، فلما سألهما النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب ذلك أجابه أحدهما بأن سيدهم كسرى أمر بذلك.. وكان الفرس يفرضون على العبيد حلق لحاهم، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمخالفة المشركين وأهل الكتاب في إفسادهم للفطرة وتشويههم للوجه.
بل ظهر في بلاد المسلمين طوائف تحلق كل شيء في رأسها كما هو حال القلندرية في بلاد الشام وغيرها الذين كانوا يحلقون لحاهم وشواربهم وشعور رؤوسهم وحواجبهم!!
وخلاصة ما ذكرت أن إعفاءها كان الأصل عند الناس وما كانوا يحلقون إلا للحاجة والضرورة أو لأهداف سياسية أو شخصية أو لأجل إظهار الحداد عكس ما يفعل اليوم، وأن حلقها كان في أحيان كثيرة بأمر من ملوكهم أو قوادهم ولا يكون ذلك برغبة شخصية حتى يصير حلقها ظاهرة اجتماعية معتادة، إلى أن مسخت الفطر اليوم وانقلب الأصل شذوذا والشاذ أصلا، وصار حلقها حلقة مكملة لحلقات إنتاج عالمية لماكينات الحلاقة في أوروبا وأمريكا وصرت تسمع في التلفاز: (جيليت الأفضل للرجال)..
وسوي الوجه بالعانة والآباط..!! باعتبار الحلق طهارة ونظافة…(hygiene)!!
وقد كتبت هذا المقال كالتنبيه بالأدنى على الأعلى، فالأولى مراجعة المصادر التي سأذكرها وحسبي الله ونعم الوكيل.
المصادر:
– De la barbe au point de vue religieux – Neuchatel
– Dictionnaire raisonné des sciences, des arts et des métiers– tome 4-pages (401-402-403)
– Mémoires pour servir à l’Histoire de la Barbe de l’Homme

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *