كنا في جمع حافل بالشخصيات ضخمة الكفايات، المختلفة الاتجاهات، فمن سياسي إلى صحفي إلى مدرس إلى قاض وشهود، وكان الاجتماع على دعوة كريمة لأحد الباشوات المثقفين، أعني أحد الولاة أو أحد الحكام في مدينة ما، ولا أقول أحد المحافظين تقليدا محضا للاصطلاح المصري كما يروق لبعض كتابنا سامحهم الله أن يفسروا ألفاظنا الاصطلاحية بألفاظ اصطلاحية أخرى لا تستعمل إلا في مصر، فينقلون مواطنيهم من اصطلاح إلى اصطلاح، ولا يفيدون القراء في البلاد العربية الأخرى معنى الاصطلاح المغربي المقصود.
ونرجع إلى الباشا صاحب الدعوة، فإنه فضلا عن منصبه الإداري وما له من ثقافة واسعة، كان مما يدل بانتمائه إلى أحد البيوتات العريقة في المجد، فهو يرى نفسه رئيس الجمع وكثير ممن جمعتهم الدعوة يرى معه ذلك.
وجال المجتمعون في ميادين الحديث، وتناولوا مختلف المواضيع، وأسهم الباشا برأيه في بعض المذكرات، وأحسن الإنصات في بعضها الآخر، ثم كان مما أثار هو من الموضوعات، ووجه الخطاب فيه بالخصوص إلي مسألة الصلاح والصلحاء، والولاية والأولياء، قائلا أنه في صباه وشبابه، كان يعرف كثيرا ممن يوسم بهذه السمة، ويشار إليه بهذه الصفة، فلم يكن يخلو جبل ولا قرية فضلا عن المدن، من رجال يعتقدهم الناس، ويتبركون بهم، ويرون أن وجودهم رحمة للإنسانية، وأنهم أمان لأهل الأرض، يفزعون إليهم عند الملمات ولا يخشون ضررا ما داموا موجودين بين أظهرهم، واليوم لا خبر ولا أثر، فهل انعدم الصلاح من الدنيا، أو ضرب على أهله بحجاب، فلم نعد نراهم وإن كانوا موجودين أم ماذا؟
وقد كان ما أجبته به، أن الصلاح لم ينعدم، وإنما تبدل مقياسه، فالصالحون بالمعنى الذي كان يعرفه أهل الجيل الماضي لم يبق لهم وجود، أما أولا: فلأن أكثريتهم الساحقة كانت ذات صلاح مزيف، يراؤون الناس ويخدعونهم بالمظاهر الكاذبة والدعاوى الباطلة، ليحصلوا منهم على المنافع الشخصية والخدمة والتقديس، وغير ذلك من الأغراض الدنيوية التي اتخذوا الدين مصيدة لها، فلما لم تبق هذه الحيلة تنطلي على الناس، فكر هؤلاء في وسيلة أخرى للعيش، وخلعوا جلباب الصلاح المزعوم.
وأما ثانيا: لأن من يكون صادق الحال منهم، لا يتعرض للناس ولا يستظهر بصلاحه، لأن صلاته وصيامه وعبادته كلها لا تكون معتبرة شرعا، إلا إذا كانت خالصة لوجهه تعالى لم تشب برياء ولا سمعة، “قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ” ويرحم الله ابن البناء إذ يقول في نظمه في الطريق:
قول الفقير أنني فقير إلى الظهور أبدا يشير
ولذلك فنحن لا نهتدي إلى هذا (الصالح) وإن كان يعيش بين أظهرنا يصابحنا ويماسينا.
على أننا وإن اهتدينا إليه لم يكن له عندنا ذلك المقام الذي كان له ولنظرائه من صلحاء صادقين ومزيفين عند أهل الجيل الماضي، لأن مقياس الصلاح كما قلنا قد تبدل، ولم يعد الرجل يوزن بأعماله القاصرة عليه والعائدة نفعها إليه، وإنما يعظم قدره ويثقل وزنه عند الله وعند الناس بأعماله المتعدية النفع ومساعيه التي تعود فائدتها على الأمة لا عليه بالخصوص، وفي الحديث: “الخلق عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله” وقد جاء في مدح الإمام العادل ما لم يجئ قليل منه في مدح غيره من العاملين، وما ذلك إلا لما يحصل به من النفع العظيم للأمة، كتأمين سبلها وحماية حقيقتها والسهر على مصالحها الدينية والدنيوية معا.
لولا الخلافة لم تأمن لنا سبل وكان أضعفنا نهبا لأقوانا
وكذلك جاء مدح العالم الذي ينفع الناس بعلمه، والمالي الذي وقف ماله على مشاريع الخير، حتى إن الحديث الشريف لم ير في الدنيا شيئا يصح للإنسان أن يغبط غيره عليه إلا هذين الأمرين: “لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله علما فهو يعلمه الناس، ورجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق”.
ولا يخفى أن هذا هو المقياس الصحيح للصلاح، فإن الناس في عهد أبي بكر وعمر لم يكونوا ينظرون لكثرة صلاة الرجل وصيامه، وإنما ينظرون لجهاده وسابقته في الإسلام، وأبو بكر وعمر نفسهما لم يكونا يجلسان في خلوة يذكران الله عز وجل باللسان، ويصليان على النبي صلى الله عليه وسلم مائة مرة أو مائتين أو ألفا، ويتركان ما هو أهم من السعي في مصالح الأمة، والعمل عن رفع شأن الإسلام، ولا صالح في هذه الأمة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم أعظم منهما.
ولأجل هذا المعنى قال الإمامان أبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله من ولي.
بل وقد ثبت في السنة ذم حال أولئك الصلحاء الذين يقتصرون على العبادة، ويتكلون على الناس وإن كانوا صادقين، ففي الحديث: أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قدموا يثنون على صاحب لهم خيرا، قالوا: ما رأينا مثل فلان قط، ما كان في مسير إلا كان في قراءة، ولا كان في منزل إلا كان في صلاة، قال: فمن كان يكفيه صنعته حتى ذكر؟ ومن كان يعلف جمله أو دابته؟ قالوا: نحن، قال: فكلكم خير منه. رواه أبو داود.
وبالاختصار لقد عاد مقياس الصلاح إلى أصله، ولذلك نرى وجوه الأمة اليوم منصرفة إلى من يخدمها من الملوك والزعماء والمصلحين والعاملين كافة، وإن كانت لا تقصر قلامة ظفر في حق الصالحين بالاعتبار الأول ولكن إذا كانوا صادقين (وقليل ما هم).
قال الباشا: لعل هذا هو الحق، وقال الحاضرون إن هذا هو الحق.
العلامة عبد الله كنون رحمه الله
مفاهيم إسلامية الصفحة 45-47