من ذيول المحنة

كان أول فتق في الإسلام مقتل الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه يوم الدار، وذلك بعد أن بدأ الفساد يتسرب إلى نظام الحكم الرباني في الخلافة النبوية، وبدأت طلائع الملك العضوض تلوح في الأفق.
ثم استفحل الداء وتزايد الخطر وكانت المقاومة الذاتية للعقيدة الإسلامية كفيلة بالتغلب على الأعراض المخفية، والمضاعفات المقلقة، وكان الانتصار يتم لها بعض الأحيان حتى يفرح المؤمنين ويطمئنوا لزوال الداء، ولكن التغيرات المفاجئة تتيح لآثار الجراثيم أن تتجمع وتتوالد فيعود الداء إلى الظهور بشكل أو بآخر.
وهكذا على مرِّ التاريخ الإسلامي لم تهدأ قوى الشر ولم تنم عيونه الغادرة عن مواصلة الدس والمكر وتبييت الخبث والخداع، والحركات الهدامة والمذاهب المخربة؛ وما تبنته من أساليب هائلة؛ وابتكرته من وسائل ماكرة كانت وما تزال مبعث إشفاق وخوف شديدين على هذا النظام الإلهي الخالد؛ الذي ما أقلق راحة الأعداء وأقض مضاجعهم إلا بقاؤه صخرة عاتية تتكسر عليها معاولهم؛ وترتد عنها جحافلهم مفلولة، وهم ذوو الإمكانيات المتعددة والعدد الضخمة.
ومن المعروف أن أخبثها كيدا وأبلغها أثرا ونكاية المنظمات السرية التي تعمل في الظلام، وتكيد في الخفاء متذرعة بالنفاق والتقية، ومتظاهرة بالنصح والإخلاص والمحبة، مستعملة الرموز والألغاز والإشارات مستعينة بما استورده أقطابها من فلسفات وثنية ومبادئ غربية تنتهي إلى الهدف المشترك المنشود.
وقد أفلح المجرمون في دس هذه الأفكار والترويج لها بين المؤلفة قلوبهم من دهماء العجم والمغفلين من أخلاط الناس في ساعة مبكرة من يوم الإسلام، فما جاء ضحى الإسلام حتى كان أفقه الصحو متلبدا بغيوم السبأية والكيسانية والشبك وغلاة الروافض، ومن في الضفة الآخرى من النواصب والخوارج والجهمية والمعتزلة وهلم جرا، وما نشأ عن هذه الفرق من صراع ونزاع أضعف القوى ونقض غزلها.
ورغم مرور ألف ومائتي سنة على ميلاد هذه الجراثيم التي مات معظمها لموت أسبابها ودواعيها؛ فما زال إلى اليوم من يعتقد بالغيبة الكبرى والصغرى لإمامة المهدي بمدينة سمراء بالعراق، وما زال من يعتقد العصمة في عدد محصور من الأئمة، وما زال الجدال يحتدم بين الفينة والفينة في الخلافة ووجوب حصرها في المعصومين، حتى صاح فيهم أحد عقلائهم بأن يكفوا عن هذا العبث بعد أن أصبح الخليفة هو المندوب السامي الفرنسي أو الإنجليزي؛ وجمهورهم ينادي كل يوم عمدا ذكر المهدي الغائب (عجل الله فرجه).
وغير خاف على باحث متأمل ما بين التصوف الفلسفي والتشييع الغالي من وشائج القربى والاتصال، وقد عمل المخربون على تقوية هذه الوشائج، وتمتين هذه الروابط حتى يتميع هذا التماسك الموروث عن الجيل الأول من الصوفية الذين كان شغلهم الشاغل تصفية الباطن بالرياضة والعبادة، والمجاهدة مع إعلان أكابرهم أن الباب مسدود إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن علمهم مشيد بالوحي فما خرج عنه فهو باطل ولغو، وأن الخواطر والهواجس يجب أن توزن بميزان الشريعة فلا يقبل منها شيء إلا بشاهدي عدل: الكتاب والسنة.
وتواترت عن مشايخهم ومقدميهم النصائح والوصايا بوجوب التيقظ والاحتياط البالغ في الأخذ والرد، مبالغة في التحري وابتعاد عن الابتداع القاطع عن الله والمستدرج إلى الضلال والمروق.
فخلف من بعدهم خلف ساءت نواياهم؛ وأظلمت ضمائرهم؛ وولج بهم الشيطان باب الترخص والتساهل؛ وأوقفهم على أحوال وأقوال كانت بدرت من بعض المشاهير في حال غلبة استثنائية هم فيها معذورون على كل حال؛ لسقوط التكليف فيها عنهم لانعدام شرطه.
ولكنهم مؤاخذون كذلك لتساهلهم في القضاء عليها، وتغاضيهم عنها وهم يعلمون خطرها وسوء أثرها، وأغراهم الشيطان بتبنيها وإحيائها والدعوة إليها.
فظهر في هذه الأيام من يردد نغمة كنا نظن أن الزمان قطع وترها وحطم عودها، فإذا بمسيلمة يظهر في طنجة وطليحة يرفع رأسه في وجدة والأسود يمد عنقه في مكناس.
ولم يكشف هؤلاء المتنبئون بالدعوة إلى نحلتهم سرا بل سجلوا ذلك مباشرة أو بواسطة المؤمنين بهم في كتب ظهرت تتحدث عنهم؛
فقال الأول: إن الله ظهر في صورته مناما لأحد أتباعه.
وقال الثاني لأتباعه: إنهم لا يصلون حتى يستحضروا صورته بينهم ويشيروا إليها في أثناء طقوسهم.
وقال الثالث: بأن النبي صلى الله عليه وسلم زاره يقظة لا مناما وأخبره أنه خليفته ووارثه.
وتكاثرت منهم هذه الدعاوي وتفاحشت ووقع الإقبال على نحلتهم وقديما قيل للناس أتباع كل ناعق.
أما المصلحون المشفقون الراغبون في الصلاح والإصلاح، فإن أيديهم تلوح ولكن في القتام، وأصواتهم تردد ولكن وسط ضوضاء، ونورهم يلوح كالكوكب الغابر في الفضاء، وشعارهم المميز كلمة الإمام مالك رضي الله عنه: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أولها، وما صلح عليه الأولون ليس سرا ولا رمزا ولا شطحا؛ بل إنه على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
والله من وراء القصد ولا يتسع صدر الصحيفة لأكثر من هذا وإلى اللقاء في فرصة أخرى إن شاء الله.
محمد بوخبزة جريدة النور
العدد الثاني السنة الأولى
ربيع الثاني 1394 الموافق مايو 1974

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *