هل أصبح الدين في العصر الحديث ظاهرة هامشية

لم يتعرض الدين أي دين كان، والدين الحق بالخصوص، في جميع العصور الماضية، لمثل ما يتعرض له في العصر الحاضر من إنكار وتشنيع، فمن وصفه بأنه خرافة، وأنه أفيون الشعوب، وأنه ضد العلم وضد الحضارة، إلى الإزراء على أهله ورميهم بأقبح التهم، كالتعصب والنفاق والتخلف والرجعية وما إلى ذلك، هذا على حين أن الأكثرية من الأمم والشعوب ما تزال متمسكة بعقيدتها الدينية، ومتشبثة بشعائرها من عادات وعبادات، سواء كانت من أتباع الأديان السماوية أو من منتحلي الأديان الأخرى حتى الوثنية منها، وذلك لأن حاجة البشر إلى الدين كحاجتهم إلى الطعام والشراب، فإذا كان الجسم لا بد له من غذاء لاستكمال نموه وقوته والمحافظة على سلامته واستوائه، فإن الروح التي بها يعد الإنسان إنسانا، أولى بما يقيم أودها ويذكي شعلتها، وليس هو إلا الدين.
وإنك لترى كثيرا من المسرفين على أنفسهم في ساعات الحسرة والضيق والاضطرار، فتلاحظ من تعلقهم بالله والتضرع إليه ورجاء رحمته ما تقضي منه العجب، بل إني لا أشك في أن أكبر الملحدين حين تنزل به النازلة لا يقوى لها على دفع، من خطر عظيم يتعرض له، أو داء عضال يصيبه، بله حادث الموت إذ يستيقنه، لن يتردد في التطلع إلى السماء والرجوع عن غلوائه، مما يدل على أن التدين غريزة طبيعية في الإنسان لا يمكنه أن يتخلص منها ولا أن يتخلى عنها وإن أنكرها أحيانا وتوهم أنه يستطيع أن يعيش بدونها، ولنقرأ على سبيل المثال قوله تعالى في شأن فرعون: “فلما أدركه الغرق قال آمنت”، والأمثلة على ذلك من غير القرآن في الواقع المحسوس، والتاريخ المتداول، والنصوص الأدبية، شعرية ونثرية، وصفية وذاتية، كثيرة لا تستطيع أن نلم بها هنا.
إنما المشكل الذي تحار فيه الأذهان، هو أن يكون هذا مقام الدين في النفوس وعلى الصعيد العملي، في الوقت الذي تشن عليه الحرب التي لا هوادة فيها، ويقاوم بكل الوسائل، سواء في البلاد التي أعلنت لا دينيتها بصراحة، أو التي ما تزال تدعي بأنها متدينة رسميا.
والحقيقة أن المعركة ضد الدين، ليست معركة الأمم والشعوب، وإنما هي معركة طائفة من الناس استولوا على مقدرات بلادهم وأخذوا زمام السلطة فيها إما باستعمال القوة والعنف أو بطريق المكر والخداع، فاستطاعوا أن ينفذوا مخططاتهم في السياسة والاقتصاد، وأن ينشروا أفكارهم التي تهدم دعائم المجتمع المتدين، لأنه لا يتلاقى ومخططاتهم المبنية على فلسفة مادية إلحادية.
وبعبارة أخرى هي معركة الشيوعية والماسونية وغيرهما من الحركات المعروفة بمعاداتها للدين وطعنها في مثله وقيمه، وخصصت بالذكر هاتين الحركتين لأنهما منتشرتان على نطاق عالمي، ولأنهما بواسطة الاستيلاء على مقاليد الحكم بالنسبة إلى الأولى، وتسخير الحكام بالنسبة إلى الثانية، تعملان على بث سمومها ورفع راية الإلحاد في كل مكان من غير خجل ولا نكير، بخلاف باقي الحركات والمذاهب كالوجودية مثلا، فإنها وإن كانت تسهم بنصيب وافر في نشر الإلحاد بين الشباب والتحامل على الدين، إلا أن ذلك إنما يكون من طريق التلقين والفتنة، وغير خاف أن وسائل الإعلام في هذا العصر قد تعددت تعددا لم يعرف من قبل، وأن فن الدعاية قد تقدم تقدما عظيما في الثلاثين سنة الأخيرة، أي فيما بعد الحرب العالمية الثانية، والذين يسيطرون على وسائل الإعلام ويوجهون الدعاية في أكثر الدول هم ممن يتعارض الدين مع مصالحهم الخاصة ونزواتهم الشخصية، فهم لذلك لا يدخرون وسعا في التنديد به سرا وجهرا وبطرق مكشوفة ومستورة، هذا في البلاد غير الشيوعية التي تسيطر عليها الماسونية وتنخر مجتمعها الفلسفات المادية الإلحادية، وأما في البلاد الشيوعية فإن الدعوة إلى الإلحاد ومعارضة الفكر الديني هي سياسة الدولة وعليها تقوم فلسفة المذهب الشيوعي، ففي مثلها يقال من جاء على أصله فلا سؤال عليه، ويفهم من هذا أن البلاد الشيوعية ليست على دين حكامها، وأن سياسة القمع والقهر هي التي تحول بينها وبين الإعلان عن شعورها الديني وممارسة شعائر دينها، سواء كان هذا الدين إسلاما أو مسيحية أو بوذية، إلا بقدر ما يسمح به الجهاز الحاكم في بعض الأحيان ولبعض الناس قصد الدعاية والتضليل.
وهذه حقيقة لا شك فيها، علمناها من بعض الإخوان الروسيين واليوغوسلافيين المسلمين، ونتحققها بالنسبة إلى باقي الشعب الروسي المسيحي وغيره من الشعوب الخاضعة للسيطرة الشيوعية، بما قدمناه آنفا من كون التدين غريزة إنسانية مركوزة في طبيعة البشر لا معدى لهم عنها لطهارة أرواحهم وسمو أنفسهم، وقد نأخذها من الآية الكريمة المعجزة التي تقول: “وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ” فهي إن كانت صادقة على الكتابيين الأحرار الذين لا يخضعون لضغط ولا إكراه، فلأن تصدق على الكتابيين في روسيا الحمراء مثلا من باب أولى وأحرى، وتكون مع ذلك من معجزات هذا القرآن الخالد.
والنتيجة أن الحملة على الدين، وزحزحة رجاله عن مكان القيادة بسبب تلفيق التهم عليهم، هي خطة مدبرة من حركات سياسية أهمها الشيوعية والماسونية، تعززها مذاهب فلسفية كالوجودية، وليست ما يدل على أن طبيعة العصر الحديث هي عدم التدين، وأن الدين أصبح ظاهرة هامشية لا يلبث أن يتخلى عن مكانه لهذه المذاهب المادية والنزعات الإلحادية، ونقولها للشباب المسلم خاصة ونحذره من الاغترار بما يراه ويسمعه من المظاهر الزائفة والضجة المصطنعة التي توهم السذج والقاصرين أن صبغة الدين قد نصلت عن المجتمعات الراقية، وأن التدين لم يبق له مجال في عصر الصواريخ والأقمار الصناعية، إن ذلك كله إنما هو حرب الدعاية، وليس هو الواقع المعاش في البلاد التي تصدر عنها تلك الأقوال وتلك المشاهد، ولنستعرض بعض الحوادث التي وقعت في الشهور الأخيرة في البلاد الأوربية والأمريكية مما تنعكس عليه روح التدين المتغلغلة في النفوس.
فقد عقد في أبريل الماضي بليما عاصمة جمهورية البيرو من جمهورية أمريكا الجنوبية، المؤتمر الخامس للأحزاب السياسية المسيحية بأوربا وأمريكا، واتخذ عدة قرارات في السياسة العالمية، وانجلى أخيرا عن كارثة الطائرة التي كانت تقل عددا من وفود هذه الأحزاب كما ورد في الأنباء، والأحزاب السياسية المسيحية في أوربا وأمريكا الجنوبية منتشرة بكثرة ولها نفوذ قوي في سياسة بلادها، وهي الآن الحاكمة في ألمانيا وإيطاليا وما لا ندري من دول أخرى، فإذا كانت هذه منظمات سياسية في بلاد راقية يضرب بها المثل في التقدم والحضارة، لم تستنكف أن تنتمي للدين قد تقلص ظله أو كاد، وأصبح ظاهرة هامشية في العصر الحديث؟
ومما لا شك فيه أن المنظمات السياسية هي آخر ما يأتي في تصنيف المنظمات التي تنتمي إلى الدين كالمنظمات الاجتماعية المختلفة المهام والمنظمات التبشيرية التي نعرف كلنا نشاطها في بلادنا فأحرى في بلادها، وإنما قصدنا أن نضرب المثل بالمنظمات السياسية للمغرورين من دعاة التقدمية عندنا الذين يعتبرون الدين من مظاهر الرجعية والتخلف، ونقارن بين ما يجري في أوربا وأمريكا وما يجري عندنا.. فهذا مؤتمر الأحزاب السياسية المسيحية يعقد للمرة الخامسة بلا جلبة ولا ضوضاء، ونحن لما قامت الدعوة بيننا لعقد مؤتمر إسلامي للقمة، كادت السماء تقع على الأرض مما قوبلت به هذه الدعوة من تراشق بالتهم وخصومة حادة بين المسلمين.
أما الأحزاب السياسية الدينية فلا نرى لها وجودا في بلاد الإسلام، اللهم إلا أن يكون في باكستان والهند لظروف خاصة…
وخبر من الفاتكان يأتي في هذه المدة، فيملي على المذبذبين موقعا في الزعامة الروحية كيف تكون؟ وذلك لما عزم كروميكو وزير خارجية الاتحاد السوفياتي أثناء جولته في أوربا على زيارة البابا، فقال ناطق بلسان هذا الأخير: أن الحديث بين الرجلين سيدور على مسألة السلام العالمي وعلى حالة الكنائس الكاثوليكية في روسيا التي يهتم البابا بها اهتماما خاصا.
وهذا الخبر غني عن التعليق، فإن المجاملة السياسية بين رجل الكنيسة ووزير خارجية الدولة اللادينية الأولى في العالم، لم تطغ على شعور رجل الدين فتنسيه واجبه في الاطمئنان على مؤسسات رعاياه في بلد السوفيات والتأكد من سلامتها، إن هذا هو ما يقع في الغرب، حيث العلم والحضارة قد بلغا أوجهما، أما عندنا في الشرق الإسلامي فإن قادة الفكر وزعماء الإصلاح يجهدون أنفسهم في أن يتلمسوا للشيوعية وما إليها جذورا في التعاليم الإسلامية، ويحرصون كل الحرص على تلاقي الفكر الماركسي والإسلام.
أما السؤال عن حالة المسلمين في الاتحاد السوفياتي ومساجدهم ومدارسهم وأوقافهم، ومجابهة المسؤولين الروس بذلك، فإن الديبلوماسية الشرقية الإسلامية لا يمكن أن ترتكب هذا الخطأ الذي يدل على عدم اللياقة.
وإلى هذا أحب أن أشير لما شاهدته مرارا في بعض بلاد أوربا كسويسرا وإيطاليا من تجهيز غرف الفنادق بكتاب الإنجيل، وكنت لما وجدته أول مرة ظننت أنه وضع خطأ في الغرفة التي نزلت بها، أو أن أحد المسافرين نسيه فيها، ثم تكرر وجودي له مع دليل التيليفون في الغرفة التي أنزلها من كل فندق تقريبا، ورأيت أن بعض النسخ تكون مجلدة أحسن تجليد، مما يدل على عمق الشعور الديني ويقوي الرغبة في القراءة أو التصفح على الأقل عند النزيل.
فهذه ظاهرة أخرى من تدين الغربيين لا نظير لها عندنا ولو في فنادق مكة والمدينة، أفبعد هذا يقال أن الدين أصبح ظاهرة هامشية في العصر الحديث لمناقضته لرقي العلم والحضارة العصرية؟
نعم إن الدين في البلاد الجاهلة كبلادنا، يعاني أزمة شديدة من حيث الجهل بمفاهيمه الصحيحة، ومن حيث اغترار شبابنا بما يقال عنه من إفك وبهتان، ولكنه في البلاد المتعلمة، على ما رأينا له من بسطة وسلطان، ولا يضيره هناك ما يوجه إليه من نقد وتهزئ، لأن القوم قادرون على تمييز الصحيح من السقيم والغث من السمين، ووجود طائفة من الملحدين وغير المومنين في المجتمع الراقي معهود، كما كان في البلاد الإسلامية على عهد الخلفاء العباسيين وفي العصر الذهبي للحضارة العربية ولكنه لم يؤثر قليلا ولا كثيرا على وضعية الدين الإسلامي وسيادته والتمسك بعقيدته والحكم بشريعته، بل كانت تلك الطائفة دافعا قويا لقيام دراسات إسلامية عظيمة الأهمية في نقض المطاعن التي توجه للدين والتمكين لسلطانه من النفوس، ولذا فإن تأثير المتسللين والعابثين بالقيم والأخلاق الدينية إنما يخشى في المجتمع المتخلف وعلى طبقة الشباب التي تحصن بالتربية الإسلامية العالية ولم تزود بالمعلومات الصحيحة عن سمو دينها وعبقريته التي لا يرقى إليها الشك ولا الخلاف.
وهذه هي معركة الدعاة الحقيقيين في العالم الإسلامي اليوم.

مقال للعلامة عبد الله كنون- بتصرف
دعوة الحق العدد السادس والسابع السنة العاشرة
محرم-صفر 1387/أبريل-ماي 1967

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *