وقف الناس من الديانات السماوية موقفا غريبا، لأنهم لم يعرفوا قيمتها ولا قدروها قدرها، فمنهم من تمسك بالعاطفة الدينية وحدها، وحمله الحب لها والحرص عليها على أن يأخذ كل ما ينسب للدين على أنه دين، متجاهلا ما أحدثته الظروف التاريخية والاجتماعية، وما أدخلته في الديانات مما ليس منها حتى انحرفت بها عن الطريق السوي والدعوة المثلى، التي بلغها الرسل وآمن بها الأنبياء.
ولولا ذلك الانحراف لما بعث الله الرسل تترى، ليعيدوا الدين غضا طريا، وليجددوا للناس ما أبلاه الانحراف من أمر دينهم، حتى كانت الخاتمة هي بعثة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، التي وافقت مرحلة معينة من التطور الإنساني، بلغ بها البشر مبلغ الرشد، فكان محمد نبي العقل ورسول الإصلاح، مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل ومهيمنا عليهما وعلى غيرهما من الكتب المنزلة ومصلحا لما أفسده الأحبار والرهبان من آثارها.
وقد كان في مقدمة ما دعا إليه، النظر والبحث والاهتمام بشؤون المجتمع وأمر الناس، فكان بذلك خير نبراس يقتدى به في جميع العصور، ولكن أمته لم تنج مما أصاب غيرها من الأمم، فانحرفت عن الطريق وأولت الآيات المنزلة والأحاديث المحكمة، التأويلات التي تتفق مع أهوائها ومصالح بعض أشخاصها، وفرقت دينها فكانت شيعا، وغيرت سبيلها فملأت أعمالها بدعا، وحادت عن السنة في الاعتقاد وفي السلوك، فأصبحت تؤمن بالخرافات وتنهج نهج الأباطيل.
وتعاقبت الأجيال على ذلك، ونسي الناس من أمر الدين الشيء الكثير، وأصبحوا يعتبرون ما تعودوه من التقاليد البالية من صميمه، وإن كان أبعد الأشياء عنه، فتعصبت العامة للبدل، وتملق لها الخاصة، فأخذوا يبحثون عن مبررات أعمالهم، ويستنبطون لها البينات.
وهكذا تمت المؤامرة من الكل على إفساد الدين وتعمية الحقيقة، وكلما قام داعية ينشر الإصلاح أو يهيب بالتجديد، عاملته الخاصة معاملة المفسد على الناس عقائدها وشؤونها وشايعتهم العامة، فنبذوه لأنهم أحرص على ما ألفوه باسم الدين، لاسيما وقد أيده المتملقون لهم من علماء السوء، فيستمر الحال على ما هو عليه، ويتفق المستفيدون من الوضع حكاما أو غيرهم، على ما يهدئ الجو، ويبعد القلق عن الأوساط الشعبية، فيؤيدون أولئك الخاصة لإخضاع العامة، ولم يلبث الكل أن أصبح يعتقد أن ما هم فيه هو الحق، فمردت نفوسهم عليه وجمدوا، حتى أصبحوا مخلصين في جمودهم، لا يستطيعون قبول أية فكرة تتنافى مع أحوالهم، وتعمل على تغيير أوضاعهم، وقد حسبوا أنهم ما داموا يصلون ويصومون ويحجون أحيانا، وربما أخرجوا بعض الزكوات، فقد تمسكوا بالدين، مع أن الإسلام ليس منحصرا في بعض العبادات دون بعض؛ ولا يمكن أن يجزأ أمره ونهيه، وخصوصا بالنسبة للمجموع، فإذا كان الفرد قد يعصي بمخالفة بعض الأحكام فلا يخرج من الدين، فإن الأمة إذا أجمعت كلها على ترك ذلك الحكم فقد أوشكت أن تعتبر في عداد المارقين المنحرفين عن الطريق.
وقد كان الجانب الذي انحرف عنه الناس من شؤون الملة، أكثر من غيره، هو ما يرجع للنواحي الاجتماعية وما يمس الحق العام، أو يتناول صلة الأفراد بالحاكمين، وصلة مجموع الأمة ببعضها.
وقد كان ذلك نتيجة للسيطرة التي حصل عليها بعض الساسة في الظروف التاريخية الإسلامية، فقد عاق ذلك عن تنمية المنظمات الحرة، وعن ازدهار الأفكار التحريرية التي تجد أصولها في مختلف الآيات والأحكام الشرعية.
واتصل هذا الانحراف بعامل الجمود على ما ألف الناس من الخرافات، فتأولوا عقيدة القضاء والقدر الإسلامية على أنها جبر لا يسمح بالعمل على تغيير الأحوال وإصلاح الشؤون، لأن ما وقع في العالم لابد أن يدوم، إذ هو مطابق لمقتضى إرادة الله التي لا تقبل التبديل، وهو تأويل لا يتفق مع الحقيقة الشرعية، لأن إرادة الله الخاصة تابعة لإرادته العامة، التي تعني تسيير شؤون العالم بمقتضى نواميس أودعها فيه، وطبائع وضعها في كل الأشياء.
كان لهذا الجمود أثره الفعال في وقوف سير تاريخ الأمة الإسلامية إلى الأمام، ولولاه لما وقفنا في منتصف الطريق أولا، ثم أخذنا نتقهقر إلى الوراء، حتى ضاعت معرفتنا وذبل غرسنا وكدنا لا نعرف من العالم إلا ما توحي به الأوهام، وما تتحدث به الخرافات أو ترويه المناقب. لقد كفرنا بالشهادة فلم نعد نقرأ لها حسابا، وحولنا الغيب الإلهي إلى غيابات من الجهل لا تتفق مع شيء مما أمرنا به، أو حذرنا من الوقوع فيه.
وفي هذا الوقت نفسه، كان العالم الأوربي يتدبر فيما اقتبسه من تعاليم ديننا وما استمده من أصول حضارتنا، ويحاول أن يبدأ السير من حيث وقفنا وأن يعمل على دراسة العالم ومظاهره والاستفادة من موارده المختلفة، حتى اكتشف آلة البخار التي غيرت مجرى الحياة وطورت مقادير الإنسان.
وبينما نحن نغط في رقادنا، أو نهيم في سبحات المناقب المصطنعة التي نخدر بها إحساسنا، إذا به يقطع المسافات المتعاقبة، ليقفز بالاقتصاد العالمي هذه القفزة التي مكنته من زمام الأرض وما تحتها، والسماء وما حولها، ولم ننتبه إلا وطنين آلاته يقلق راحتنا، وأدواته المهيمنة توقظنا من مرقدنا، فحاولنا الإفلات منه، ملتجئين إلى عالمنا الوهمي ومناقبنا المصنوعة، ولكن ذلك كله لم يجدنا نفعا، ولا حمانا من سيطرة الاقتصاد العصري وما اشتمل عليه من تقدم في الصناعة وفي المعرفة، وكان ما أرادته السنن الكونية من سيطرة الذين أصلحوا أوطانهم وأساليب حياتهم علينا.
لقد كانت محنة أرادها الله، أيقظتنا من سباتنا، ونبهتنا من غفلتنا فتقدمنا نتساءل:
ما هي الأسباب وما هو الدافع لسقوطنا ونهوض غيرنا؟
ما هي العوامل التي جعلت تلامذتنا بالأمس أساتذة لنا بل سادة يحكموننا؟
والتجأ الجامدون إلى الرضا والاستسلام، وقد حلوا المشكل مع أنفسهم، لأنهم لا يبحثون عما يغير الوضع، ولا ما يبدل الأحوال.
أما الفئة النيرة فقد اندهشت من هول الموقف، وأنساها الذهول ماضي أسلافها وتعاليم دينها، وحسبت أن ما حصل عليه الغربي هو ذاتي له، وأن الدين وحده هو العائق عن النهوض واللحاق بركب الحضارة الأوربي.
وكان المنطق الواقعي الذي يسير تفكيرها هو أن القوة والحضارة عند الغرب، فيجب أن نقتدي به في كل الأشياء، وقد كفر الغرب فيجب أن نكفر، وإلا بقينا في الحضيض الذي نحن فيه!!
ولكن هذا المنطق غير سليم، لأنه لم يتعمق أسباب انحطاطنا ولا أسباب رقي الغرب، ولأنه لم ينظر إلا لظاهر المسلمين في إبان تقهقرهم.
إنه يحتج بجمود الجامدين على الدين وعلى تعاليمه، مع أن الإنصاف يقضي دائما بالتفرقة بين حقيقة الإسلام وبين ما عليه المسلمون، كما أن من الخطأ اعتبار أن الغرب قد كفر حين تابع طريق النهضة الاقتصادية وشايع مقتضيات الزمن، بل إنه أكثر ما يكون إيمانا بالنواميس التي أودعها الله في الكون، وهو لم يكفر بغير الجمود الذي علمته كنيسة العصور الوسطى، والذي يتنافى مع غايات الديانات السماوية جمعاء.
وهكذا وقف المسلمون -والمغاربة منهم- في مفترق الطرق، يبحثون عن الوسائل التي تعيدهم لما كانوا عليه من مجد ورفعة، وارتبك اتجاههم بين آثار الجمود ودعوة الجحود، وزادهم ارتباكا أن الغرب نفسه غير متفق في برامجه ولا في خططه، فله هو الآخر جموده متعدد الألوان والأشكال، وله هو الآخر جحوده، مختلف الأنظمة والأوضاع.
فهل من الحكمة أن نشايع الغرب في كل أموره؟ ونتابعه في خلافاته فنتفق حيث يتفق ونختلف بالنيابة عنه أيضا؟
أم الواجب يقضي علينا أن نعتبر أنفسنا أمة قائمة بنفسها، وأن ما يجمعنا مع الغرب هو أننا جميعا من عالم إنساني واحد، تسيره سنة كونية واحدة، وأنه في دائرة هذه السنن الكونية يجب أن نبحث عما نبذناه واقتبسه الغرب، فنستعيده، ونستفيد من تجارب تطبيقه، وما لم ننبذه من تعاليم السماء، فنحتفظ به وإن كفر به الغرب الراقي.
ومتى قمنا بهذا البحث، فإننا نجد الغرب قد نجح بالتطور العلمي الآلي الذي حصل عليه، وليس في الإسلام ما يعوقنا عن اتباع ذلك النهج الذي سلكه، فلنبذل كل ما في مستطاعنا إذن للحصول على ثقافة علمية متينة، وعلى مقدرة فنية قوية ثم لنعمل على تطوير اقتصادياتنا وتحريرها من عوائق الماضي وموانع الحاضر الاستعماري.
وهذا لا يتوقف على أكثر من نبذ الجمود، والرغبة في تبديل أوضاعنا وتغيير أحوالنا، واليقين في أن الدين يفرض علينا أن نتعلم كل ما في الوجود من أسرار، وأن نسخرها لصالح الإنسانية وخدمة رسالتها التي هي عمارة الأرض وازدهارها وهناءة أبنائها.
أما ما عدا ذلك من التعاليم الإسلامية، فقد احتفظنا بالاعتراف بها، فيجب أن نثبتها في نفوسنا وفي أخلاقنا، وهل هي غير اعتبار العمل فضيلة، والاحتراف خلقا كريما، والطاعة والمحبة والإخاء والعدل والإحسان والكرم والوفاء والشجاعة والمواظبة، وغير ذلك من صفات ذاتية للمسلم، يجب أن يكون باتصافه بها شهيدا على الناس ورقيبا؟
وهل يمكن لمجتمع أن ينهض إذا لم يحتفظ بهذا الصفات الإنسانية التي كان إيماننا بها في مقدمة الاستعداد الذي نشعر به لترميم ما خرب، وإعادة ما انهدم من صرح حضارتنا ومجدنا؟
إن الجمود في الدين، هو الذي أوقعنا في الهوة التي سقطنا فيها، فنبذه والعدول عنه، والكفر بآثاره كلها، في مقدمة ما يجب عمله لمن أراد أن ينهض بالمسلمين ويرفع من شأنهم.
وجحود تعاليم الدين لا يمكن أن يكون علاجا لآفاتنا، ولا دافعا للنهوض بنا من كبوتنا لأنه لن يمنحنا إلا الكفر بما بقي في نفوسنا وفي مجتمعنا من فضائل لابد منها لإنعاشنا وانبعاثنا.
لا جمود، ولا جحود، تلك هي -دعوة الحق- التي يجب أن تعم كل أوساطنا حتى نتمكن من السير إلى الأمام، ممتلئين إيمانا ويقينا، وعارفين بما نعمل وبالطريق التي نسلك.
“لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ” الرعد: 14.
علال الفاسي
دعوة الحق العدد الأول السنة الأولى
ذو الحجة 1376 يوليوز 1957