ما هو الخنجر المسموم الذي طعن به المسلمون؟!
ذلك هو السؤال الذي تلح الأحداث المتوالية في العالم الإسلامي على إلقائه وتطلب الإجابة عليه، وهو تساؤل مقدم اليوم على كل سؤال، لقد تحدث المصلحون عن مقاتل متعددة أصيب المسلمون بها في كيانهم وذكروها وأولوها اهتمامهم وبحثوا أمرها، ولكنهم لم يركزوا كثيراً على “الخنجر” الذي طعنوا به في هذه المقاتل، وأولى لهم أن ينتزعوه من جسمهم أولاً قبل أن يعالجوا مكانه النازف بالدم، ذلك لأنهم إذا لم ينتزعوه فسوف يظل ينزف وسوف لا يكون جدوى لشيء ما من إصلاح أو تصحيح أو تحرير أو علاج، إذ لابد أن يبدأ العمل من نقطة أولية:
هي نقطة الخنجر، ذلك الخنجر في تقديري وفيما وصل إليه اعتقادي واعتقاد الكثيرين من العاملين في دراسات التغريب والغزو الثقافي هو “التعليم” وما يتصل به من شأن التربية والثقافة، هذا هو الخنجر المغروس في الجسد الإسلامي، ومازال ينزف دماً، ولقد كان المستعمرون غاية في الدهاء عندما بدأوا معركتهم مع المسلمين والعرب من المدرسة وعن طريق برامج التعليم ومن خلال الإرساليات والسيطرة على أجهزة المعارف والتخلص من المناهج والمقررات والكتب التي كانت تدرس في مختلف أنحاء العالم الإسلامي والبلاد العربية الأزهر والزيتونة والقرويين ومعاهد الحديث ورجالها والعاملين بها وإحلال مناهج جديدة ومقررات جديدة؛ وإذا كان يرمز إلى هذا بدنلوب في مصر فإن البلاد الإسلامية قد عرفت عشرات من أمثاله وأنداده.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في شريعتهم فأقصيت عن سياستنا ومجتمعنا فإنما مرد ذلك كله إلى هذا الخنجر المدفون في أعماق الجسم الإسلامي.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في شريعتهم فأقصيت عن مجال التطبيق في مجتمعاتهم وحل محلها القانون الوضعي؛ فإنما مرد ذلك إلى التعليم الذي خرج أجيالاً تحتقر الشريعة وتؤمن بعظمة قانون نابليون.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في لغتهم وبرزت دعوى العاميات في مختلف أنحاء الوطن العربي وغيرت الأبجديات في بعض الأقطار الإسلامية؛ فإنما مرد ذلك إلى مناهج التعليم التي خدعت العرب والمسلمين بدعوى عظمة اللغات الأجنبية ودخول اللغة اللاتينية إلى المتحف فلماذا تبقى العربية العجوز؟
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في مفهومهم الإسلامي للاقتصاد فإنما يرجع ذلك إلى أن المسلمين والعرب درسوا في مدارس الإرساليات وفي المدارس الوطنية الموجودة في العالم أن الربا هو القاسم المشترك الأعظم على كل الأنظمة والمشروعات.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في مفهومهم السياسي الإسلامي فإنما يرجع ذلك إلى تلك الصور الزاهية التي قدمت لهم في مدارسهم وجامعاتهم عن الديمقراطية والليبرالية والجماعية وغيرها من أنظمة الغرب فخدعهم.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في مفهومهم للعلم فإنما يرجع ذلك إلى تلك المقررات المدرسية والجامعية التي ترد العلوم الحديثة من كيمياء وفيزياء وفلك وطبيعة وتكنولوجيا إلى علماء الغرب وحدهم متجاهلة ذلك الدور الخطير الذي قام به المسلمون والعرب في بناء الطابق الأساسي من منشئة العلم وأنهم هم الذين قدموا المنهج العلمي التجريبي إلى البشرية كلها.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في مفاهيمهم الاجتماعية فإنما مرد ذلك إلى مناهج التعليم الذي يدرس المجتمعات الغربية ومنهج مدرسة العلوم الاجتماعية الذي يقوم على إنكار فطرية الأسرة وأصالة الدين وثبات الأخلاق ويدعو إلى التطور المطلق وإلى الجيرية الاجتماعية، كل ذلك بدراسة أبناء المسلمين في مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم على أنه حقائق مقررة، لا على أنه نظريات مؤقتة مرتبطة ببيئاتها وعصورها، قابلة للخطأ والصواب لأنها من نتاج عقليات بشرية تخطئ وتصيب.
هذا هو الخطر الواضح من وراء الخنجر الذي طعن به المسلمون ومفهوم هذا الخطر أن النفس الإسلامية في العالم الإسلامي كله من حيث أنها قد انحسرت في بيوتها مفاهيم الثقافة الإسلامية القائمة على القرآن والسنة، وضعفت القدرة التي تبني الشباب، فإنها تسلم إلى المدرسة شباباً غضاً، يحس بالفراغ في مجال وجدانه وعاطفته وفكره، فلا يجد إلى مفاهيم الإسلام سبيلاً، ثم إذا به يلتقي بتلك المفاهيم التي تصور له فكر الغرب على صورة العقيدة، وتملأ نفسه بحب تاريخ الغير، وترفع في نظره شأن لغة الغريب وتقدم له العلم والاقتصاد والقانون والاجتماع من نتائج مجتمعات أخرى على أنه هو الفكر الإنساني والثقافة البشرية.
وأين الفكر الإسلامي في ذلك كله والمسلمون لهم منهج حياة كامل وله مفهوم جامع للحياة والمجتمع والسياسة والاقتصاد والتربية.
هذا كله مما لا يزال ضائعاً ولا يزال ناقصاً ولا يزال مهملاً.
ومن هنا فإن النفس المسلمة التي عجزت عن أن تملأ فراغها الروحي والفكري بمقدراتها وقيمتها لا تلبث أن تملأه بأي شيء، وبما يقدم إليها زاهياً براقاً في كتب ملونة مزخرفة، بينما هي تعجز عن أن تجد من فكرها ما يرد عنها الخطر أو يصحح لها الخطأ أو يزيح عن نفسها الشبهات.
تلك هي القضية الأولى أيها السادة في التحدي الخطير الذي يواجهه المسلمون اليوم في كل مكان، ومن هذه النقطة نصل إلى كل قضية وكل أزمة، وكل موقف ومن خلال الطريق الطويل استطاعت قوى الصهيونية والاستعمار والشيوعية أن تحقق ما وصلت إليه لأنها استطاعت أن تبث فكرها في النفس الإسلامية وأن تحتويها وأن تنقلها من دائرة الإسلام المرنة الجامعة المتكاملة الوسيطة إلى دائرة الغرب المغلقة القاتلة.
ومن هذه النقطة نصل إلى كل ما تطمعون فيه من وحدة وتقدم وقيام أمة الإسلام في أرضها بدورها الرباني الإنساني العالمي الذي هو مفروض عليها والذي هو حق في أعناقنا جميعاً والذي يجب أن نلقى (الله) عليه صادقين وإلا فنحن آثمون مقصرون مأخوذون بجريرة الذنب.
لكي نفهم هذه القضية الكبرى أعمق فهم لابد أن نبحث عن أبعادها إلى أقصى مدى ولا نقع في الأخطاء التي فرضها علينا نفوذ الدائرة المغلقة بأن نقصر البحث على ما هو أمامنا من واقع؛ لأن كل واقع أمامنا لابد أن يكون متصلاً بأبعاد أخرى غير منظورة في المكان أو التاريخ ونحن في الإسلام نؤمن بالتكامل والنظرة الجامعة ونرى كل العناصر مؤدية إلى بناء عمل واحد فلا نفرق بين التربية أو الأخلاق أو الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة أو الفن.
كذلك فنحن في واقعنا القائم يجب أن تكون نظرتنا ممتدة إلى يوم أن بعث الله رسوله بهذه الرسالة من ناحية؛ وإلى اليوم الآخر الذي يقع فيه الجزاء حتماً؛ وأن نعرف أن روابطنا بالأمم ليست حديثة وإنما هي قديمة جداً، وليست اقتصادية أو سياسية أو دينية وإنما هي كل هذا.
ولنعرف الحقيقة الكبرى التي رسمها القرآن وهي أن عالم الإسلام تكون من قلب عالم أهل الكتاب وهو منذ وجد في صراع معه وسيظل إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
هذا هو التحدي القائم الذي يجب أن يظاهر حياة المسلمين وحضارتهم ولا يغيب عنهم لحظة، ذلك أن الأمم لا تموت إلا إذا فقدت عنصر التحدي أو الطموح، ولقد كانت أزمة المسلمين في مرحلة ضعفهم وتخلفهم هي فقدان عنصر الطموح والاستنامة إلى ما وصلوا إليه، هنالك اندفع العدو الذي يرقبهم وينتظر منهم لحظة غفلة فأدال منهم.
(وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً)، فليأخذ المسلمون بالحذر ليجعلوا التحدي نصب أعينهم، هذا التحدي الذي هو صورة مغايرة لهدف محدد يتكرر تحت أسماء مختلفة في التاريخ من حروب صليبية في المشرق إلى حروب الفرنجة في المغرب إلى حروب التتار إلى الاستعمار الحديث إلى الصهيونية العالمية إلى الدعوات الهدامة من شيوعية وإباحية وإلحادية ووثنية ومادية.
ونحن نعرف أن معركة حاسمة دارت بين الإسلام والغرب هي معركة الحروب الصليبية، وقد عاشها المسلمون بالمقاومة والجهاد مائتي عام وانتهوا منها بالنصر، ولكن هل كان هذا هو نهاية الشوط بالنسبة للغرب، وهل توقف طموحه للسيطرة على أرض الإسلام وبلاد الإسلام، إن شيئاً من ذلك كله لم يحدث، لقد استمرت المؤامرة واضطردت وتبلورت في مفهوم جديد.
كان ذلك المفهوم يتصور أن المسلمين قد غلبوا الغرب وهزموه لأنهم متقدمون حضارياً وعسكرياً فلابد من هزيمتهم حضارياً وعسكرياً، فانقض الغرب على ميراث المسلمين ونقل منهج العلم التجريبي وانطلق وسبق به المسلمين حتى كانت معارك الدولة العثمانية مع الغرب في أخرها تمنى دائماً بهزيمة المسلمين لأمر واحد هو أن الغرب استحدث أساليباً في الصناعة والحرب عجز عنها المسلمون.
غير أن الغرب لم يقف عند هذا في صراعه ومؤامراته ولكنه وصل إلى مقطع الأمر كله وذلك عندما قرر أن تكون الحرب الموجهة إلى عالم الإسلام هي حرب فكر، ذلك أن المسلمين مهما تخلفوا في ميادين الصناعة والعلم فسوف تبقى لهم عقيدتهم الراسخة التي تحمل طابع الجهاد والتي تدفع بألوفهم إلى ساحات الاستشهاد في سبيل الدفاع عن الحق، وعن الأرض، وعن العرض.
إذن فالمعركة يجب أن تبدأ أولاً من هذه النقطة الخطيرة ولابد من تزييف هذه العقيدة وامتصاص ما فيها من قوة وجهاد وإيمان حتى يفقد المسلمون هذا السر الخطير الكامن في نفوسهم، وقد تصور الغرب أنهم عندئذٍ يصبحون قطيعاً من السائمة التي تنطوي وتقهر، ومن هنا بدأت المعركة أطلق عليها أسماء كثيرة:
(التبشير، الاستشراق، التغريب، الغزو الثقافي، الاحتواء)…
أنور الجندي
من كتاب الخنجر المسموم
الذي طُعِن به المسلمون