ونعني بالمعلّمين هذه الطائفة المجاهدة في سبيل تعليم أبناء الأمة لغتهم، وتربيتهم على عقائد وقواعد دينهم، وطَبْعِهم على قالب من آدابه وأخلاقه.
نعني هذه الطائفة الصابرة على مكاره الحياة كلها، المحرومة من الراحة والاطمئنان في جميع أوقاتها، فهي في الشتاء تشقى وتتعب، وفي الصيف تضْحَى وتَنْصَب، وفيما بين ذلك تكابد وتعاني، على ضيق من العيش، وفقدان للحافز من الرغبة والتنشيط؛ فلا مسكن مريح، ولا شمل مجموع، ولا مرتّبٌ كافٍ يسدّ الضرورة، ويقوّي الضعيف، ويخفّف الهم، ويصونُ الهمة عن التبذل.
هذه الطائفة هي عماد جمعية العلماء في أجلِّ وظائفها، وهي التربية والتعليم، وهي العَصَب المدبر لحياة هذه الحركة المباركة؛ فعليها -بحكم الأمانة والدين- واجبات تشرعها الجمعية بالنظام والقانون، وتؤكّدها بالدعوة والإرشاد، وتستعين على تحقيقها بالمراقبة والتفتيش، ولها حقوق تتقاسمها الجمعية والأمة أمراً وتنفيذاً؛ فهل قامت الجمعية والأمة متعاونتين بهذه الحقوق على أكمل وجه؟
أما جمعية العلماء فإن واسطتها إلى الأمة هي هذه الجمعيات المحلية المشرفةُ على المدارس، القائمة مباشرةً بتصريف شؤونها المالية؛ وهذه الجمعيات هي المرجع الوحيد في ماديات المدارس، وهي الحاملة للحمل الثقيل فيها.
ولما كانت جمعية العلماء تبني كل أمورها على الواقع المشهود، وتُراعي الظروفَ وشدّتها ورخاءَها؛ لتضمن لهذه المدارس الدوامَ والبقاء كانت تتقدم إلى الجمعيات المحلية في باب المادّيات بما يحتمل الطاعة، وتتحمّله الطاقة؛ لأن من الحكمة اجتذابَ الجماهير بالترغيب والمسايرة، لا بالإثارة والسَّوْق العنيف؛ فهما من دواعي الانتكاس، والانتكاس أخطرُ ما يعرض للحركات في مراحلها الأولى؛ لذلك كانت تعتبر في مرتبات المعلّمين الحد الأدنى مما يقوم بالضروريات، وهي تعلم ما يقاسيه المعلم من آلام حياته، وتُشفق عليه، وترثي له.
ولكنها تعلم مع ذلك حالة الموارد المالية للمدارس، وأهمّها ما يؤخذ من آباء التلامذة مشاهرة، وأغلب الآباء فقراء.
ولو كان لمدارسنا مدد ثابتٌ من الأغنياء وحقّ الله في أموالهم لجعلناه بعض ما نبني عليه في التوسيع على المعلمين، وإزاحة بعض عللهم، ولكننا هزَزْنا هؤلاء الأغنياء بما يهتزّ له الكرام فلم تسقط منهم ثمرة، ورقينا لعاهة الشحّ فيهم باسم الله وباسم الدين والوطن، وناشدناهم الله في هذا الجيل المقبل أن يحلّ به ما حلّ بهم من جهل، يصحبه هوان، يصحبه شر مستطير -فلم ينزل عفريتُ بخلهم لِرُقْيَةٍ؛ وبقيت مواردُ المدارس- لغيبة الأغنياء عن ميدان البذل محدودةً مقترة، تتراجع ناضبة، حتى أصبحت لا تبلّ من جفاف، ولا تقوم بكفاف؛ وإذا لم يكن الغيثُ هامياً فلا ترجُ أن يكونَ النبت نامياً.
نوجّه بعضَ العتب إلى رجال جمعياتنا المحلية، ولا نبرئهم من تبعة التقصير، ونعيب فيهم خلةً كادت تكون غالبة عليهم، وهي أنهم يؤثرون المصالح الخاصة على المصلحة العامة عند التعارض.
ولو أنهم -سامحهم الله- وجّهوا بعضَ اهتمامهم إلى حالة المدارس المادية، وبعضَ تفكيرهم إلى ابتكار مواردَ أخرى للمال لكان لعملهم أثرٌ يذكر في حلّ هذه الأزمة التي شغلنا التفكير فيها عن التفكير في توسيع دائرة الحركة وتكميل نقائصها؛ ولو أنهم كانوا أكثرَ جرأة مما هم عليه لما توقفوا عند كل فترة يأنسونها من الجمهور؛ فليعلموا -علمهم الله- أن كل تقصير يقع منهم في هذا الواجب فمصيبته تقع على المعلمين البائسين، وأننا لا نسمح بأن يكون تفريطهم على حساب هذه الطائفة المجاهدة، ولا نرضى أن تكون خاتمة أعمالهم فشلاً وخيبة، ولا أن يكونوا هم السبب أو بعضَ السبب فيما يصيب هذه النهضة العلمية من خمود أو تراجع.
إن الموانع لكثيرة، وإن العوائق عن الخير لوفيرة؛ وشرّها ما عاق عن العلم والدين، ووقف عثرةً في طريقهما، ولكنها عند الرجال مصاعب سهلة التذليل؛ لأنهم يعتبرونها عوارض تزول، وأحوالاً تتحول؛ فيكون فهمهم لها وتصورهم إياها على حقيقتها أكبر أعوانهم عليها؛ فيلقونها بالهمم النافذة، والتصميم الخارق، والصبر الثابت، حتى تنقشع غماؤها، وتسلم المقاصد الذاتية.
وإذا هاج البحر، وعصفَتْ عواصفه فالغرق عارض، والسلامة هي الأصل، وما على الربّان الحاذق المتأثّر بهذه الحقيقة إلا أن يعالجَ الشدّة بدوائها، فيعالج الفزع بالصبر، والعواصف بحسن التصريف لها، وإلحاح الأمواج بإلحاح العزيمة، فإذا هو ناجٍ سالمٌ محرزٌ لمهجته وسفينته.
ولكن هذا كله كلام لا يجلب المنام، ولا يغني عن الطعام، ولا يكسو العظام، ولا ينعل الأقدام.
والحقيقة التي تجب مواجهتها كفاحاً، هي أن الأزمة خانقة، وأسعار الضروريات والحاجيات كسعود الأقوياء كل يوم في ارتفاع، ووجه المستقبل يطلّ من خلل الأيام كالحاً باسراً ينذر بالسوأى وزيادة، وأصوات العمّال الكادحين، وأُجَراءُ المشاهرة والمياومة تصمّ الآذان بطلب الزيادة في الأجور؛ لأن الزيت -وهو الإدام- أصبح بقيمته شجًى في الحلوق، ولأن الثياب الساترة أصبحت بسبب الغلاء فاضحة، ولأن ورقة (الألف) بورك فيها فأصبحت (كالشين) في حساب الجُمَّل في (الجزم الصغير) عند (اليقَّاشين)( )…
وهذه الطائفة المجاهدة الصابرة عندنا تتوقّع الموت، ولا ترفع الصوت، ولا مرجع لها -بعد الله- إلا جمعية العلماء التي حبّبت إليها التعليم، وزيّنته في قلوبها، ثم ساقتها إلى ميادينه، وجنَّدتها في كتائبه؛ فإذا لم تبذلْ كل مجهود في تخفيف البلاء وتهوين الغلاء عليهم بالزيادة في المرتبات فإن العاقبة تكون وخيمة.
وإذا كنا لا نخشى أن يفرّوا من الزحفْ؛ ثقةً بهم، واعتماداً على متانة دينهم، وصدق وطنيّتهم، وركوناً إلى شهامتهم واعتزازاً بمهنتهم، فإننا نخشى ما هو أسوأ عاقبةً من ذلك؛ نخشى أن يعلموا أبناءنا بلا قلوب ولا عقول في وقت نحن أحوج ما نكون إلى صلة القلوب بالقلوب، وتأثر العقول بالعقول، واستقاء الأرواح من الأرواح؛ فإذا حصل ذلك جاء التعليم وفيه أثرُ الجوع والهزال، وعليه سيما الفقر والخصاصة، ويأتي هذا الجيل وعلى عقله من هذه الآثار ما على أجسام مواليد الحرب التي نشأتْ في فقر من المواد المغذية.
وإذا كنتم تسمعون عن الأمم الحية أنها توفّر أرزاقَ القضاة حتى لا تلجئهم مطالبُ الحياة إلى الرشوة فكذلك يجب توفير أرزاق المعلّمين حتى لا تطمحَ نفوسهم إلى هجر التعليم.
أما والله لو استطعتُ لأعطيتُ المعلّم جمّاً، ثم لأوسعت العطاء ذمَّاً، حتى تقوى فيه نزعة الكرامة وشرف العلم، والشعور بأن العلم كالعبادة، وكفاؤه الأجرُ من الله لا الأجرةُ من المخلوق، ولكن التمنّي تعلّق بالخيال…
هذا نذير من النذر الأولى لرجالنا القائمين على المدارس، والحاملين معنا للعبء المادي؛ فعليهم أن يقدُروا قدرَه، ويفكّروا في مغزاه، ويتعاونوا على إيجاد موارد جديدة؛ ليتوفّر لنا مالٌ نرفع به مرتبات المعلّمين، ونرفع به أقدار العلم والتعليم.
وإن هذه الأزمة إلى انفراج؛ فليثبتوا لها، وليكسروا حدّتها بالتدبير الذي يفل الحدّة، ويخفّف الشدة.
وإننا قد قرّرنا الزيادة في المرتبات، ولكننا تربّصنا حتى لم يبقَ مصطبر، وانتظرنا حتى يبلغهم هذا الخطاب السافر؛ فإذا تماروا بالنذير، فسنقنعهم بسوء الحال، ووخامة العقبى، وإن ظننا فيهم -على ذلك- لجميل…
للشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي
العدد 149 من جريدة البصائر، 2 أبريل سنة 1951،
وانظر آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي 3/277-280،
وقد كتبها لمعلمي جمعية العلماء.