لم يعد هناك سبيل إلى إخفاء رؤوسنا في رمال الأوهام، وإغماض عيوننا على وهم الخيالات الخادعة، لكي نتجاهل ما حل بأمتنا من ألوان الخزي والمهانة والذل، يوم استطاع اليهود خفض هامات الدول العربية الثلاث عشرة من مشارف بغداد إلى سواحل تطوان، ومن بطحاء الشام إلى جبال اليمن، وداسوا على أعلامها..، وما فيها من أهلة ونجوم، بنعالهم القذرة وهم في طريقهم إلى بيت المقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين التي دخلوها وجالوا بشراذمهم خلالها في بضعة أيام لم تتجاوز عدتها في حساب الزمن، حدود الأسبوع الواحد.
وعلى الرغم من براعة بعض الزعماء في استخدام مفردات اللغة العربية في التعبير عما حدث بعد الخامس من يوليو سنة 1967 لتبريره وإسدال ستار التمويه على حقيقته، على الرغم من هذه البراعة، فإن التاريخ قد أفرد لهؤلاء الزعماء والشعوب التي ألقت بمقاليد أمورها إلى أيديهم الملونة بعار الهزيمة وذل الفشل، قد أفرد لهم التاريخ، في جميع اللغات العالمية أبشع الصفات المشينة تحت أقسى عناوين الخيبة والتضليل والغش، في معركة الأرض المقدسة التي خاضوا غمارها ضد عدو دخيل، كانوا فيه أكثر منه عدة وعددا إلا أنه كان أكثر منهم تصميما وعزما، فصدق فينا القول المأثور أن هزيمتنا لم تكن من قلة إذ نحن ولا شك كثيرون، ولكن كثرة غثاء السيل الذي يرغي ويزبد ثم يتلاشى هباء، ورضي الله عن سيف الإسلام سيدنا خالد بن الوليد حين قال: “إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان”..
على أنه جدير بنا، بعد هذا الذي آل إليه أمرنا من الواقع الأليم والخسران المبين، أن نواجه أنفسنا بسؤال واحد صريح وهو:
لماذا انهزمنا ونحن أصحاب الحق وانتصر أعداؤنا وهم أتباع الباطل؟..
ثم لا نجرب أن نبحث عن الجواب لهذا السؤال، خارج نطاق أنفسنا ولا بعيدا عن حقيقة وضعنا وصميم حالنا، ذلك أن تحديد الدواء لا يمكن أن يتم إلا بعد تحديد مصدر الداء في صراحة لا تغشاها مواربة، وشجاعة لا يعروها تهرب، وجرأة لا يثقلها الحياء…
وإذا كنا من وراء هذا السؤال، نتطلع إلى جواب لا يعوزه الجد ولا تنقصه الصراحة، إذن فلن نحاول محاكاة الببغاء في ترديد المعاد من الخطابات البهلوانية التي حرص أصحابها على إظهار “شعاراتهم” في اللعب على الألفاظ لإلقاء شبكة من التمويه والتضليل على عقول سامعيهم تمكنهم من انتزاع هتاف هؤلاء المضللين (بالفتح) حرصا على ما بين أيديهم من السلطان عليهم والتحكم فيهم، ولن نحاول اجترار نفس الكلمات التي قفزت إلى أفواه هؤلاء المسؤولين، فراجوا يتشدقون بها في ساعة من ساعات الدهشة التي فرضتها الطعنة النجلاء في قلب كل مسلم من أقصى الأرض إلى أقصاها يوم خامس يوليو الأسود، ثم ما لبثوا أن تراجعوا عنها وأنكروها بعد حين خاسئين أو نادمين بعد أن هدأت أعصابهم المتوترة، وزالت دهشتهم العارضة.
لا، ولن نحاول هذا ولا ذاك، بل إننا سنعرض عن كل ذلك لنقول بدلا منه الحقيقة التي لا مراء فيها ولا جدل، وهذه الحقيقة في نظرنا ونظر كل واقعي منصف، هي أن بعض قياداتنا التي أرادت الاستقلال بالعمل، والانفراد بتحميل التبعة، قد واجهت معركة المصير الحاسمة، بأساليب أقل ما يمكن أن يقال فيها أنها كانت تفتقر إلى روح الجد والرصانة وأنها كانت في الواقع خالية من أي معنى من معاني الشعور بضخامة المسؤولية التاريخية التي تتصدى لها حاسبة أن الانتصار على عدوان اليهود، ومن وراءهم من قوى البغي والتعصب، إنما يتم من خلال وقفاتهم الصحفية هنا وهناك، أو استعراض العضلات المستعارة من جديد الأسلحة المستوردة بأثمان دفعتها شعوبهم على حساب غذائها وكسائها، وفي بعض الأحيان، دينها وعقيدتها…
ولكن، كيف يكون هذا البحث عن القيادة الجديدة؟
مرة أخرى، نعود بالجرأة والصراحة والحزم ونقول:
بالنسبة للأمم التي أنشبت فيها الأحداث الفاجعة أظفارها السامة واستهلكتها، وطوت صفحتها في الغابرين، فإن هذا السؤال يبقى، دون شك، عالقا في الفراغ والصمت المطبق، ومن العبث وروده في مورد الجد والتصميم.
أما بالنسبة للأمم الحية التي تكمن في كيانها روح الخلود والصمود في وجه ما يعترضها من متاعب وعقبات وعثرات، فإن هذا السؤال، يجد فورا ما يصلح للإجابة عليه، ذلك أن مثل هذه الأمم لا يمكن للحوادث والأحداث مهما كانت آثارها بالغة أن تنال مما هو كامن في ذاتها وأعماقها من جرثومة التحدي وعنصر الحياة، وليس من شك في أن أمتنا التي صهرها الإسلام بحرارته الرسالية المبدعة، هي من هذه الأمم الأخيرة، كما أثبتت ذلك الظروف الكثيرة التي أناخت بكلكلها الفادح على مقدراتها في أكثر من مناسبة من مناسبات تطورها التاريخي منذ فجر الإسلام حتى اليوم…
إذن، فلم يعد هناك مجال للقلق والاضطراب والتردد، فإن البحث عن جواب التحدي والعمل يجب أن يدور في حدود المعاني التي كانت دائما بمثابة صمام الأمان الرائع التي تبدأ بالإسلام وبه تنتهي.
فالإسلام هو القاعدة الإلهية التي حمل كبرها الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، لتكون أساسا صالحا لجميع منطلقات العمل في هذا الوجود للإنسانية على مختلف ألوانها، وفي مختلف أزمانها، ولم يكن هذا الأساس في يوم من الأيام قاصرا إمكاناته العظيمة على ظرف بعينه، ولا بيئة بعينها، ولا فترة بعينها، وإنما هو في معطياته الخلاقة التي لا حصر لها ولا حد، الجواب الوحيد لما يعترض المجتمعات البشرية من العثرات التي تفرضها طبيعة التناقض الملازمة لهذه المجتمعات منذ بداية هذا الكون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وعندما قال الله تعالى بلسان نبيه صلى الله عليه وسلم: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً“، إنما أراد جل شأنه أن يفهم العقلاء من عباده، أنه هيأ لهم بالإسلام الوسيلة الفعالة للخروج من مآزقهم ومتاعبهم ومشكلاتهم المستعصية إلى نعمة الاستقرار والراحة والازدهار والعيش اللائق الكريم، وأنه لأجل هذا جعل محمدا صلى الله عليه وسلم خاتمة للمصلحين الذين بلغوا رسالته الخالدة لكل زمان ولكل مكان.
فالإسلام وحده هو الذي أحال بدو الجزيرة العربية من أشتات تافهة تتوزعهم العصبيات العشائرية الضيقة وتنهشهم الحروب القبيلة الرخيصة إلى وحدة قومية شاملة تحكم أواصرها وتشد عروتها جذوة الإيمان بالخالق الديان، تغذيهم روح الجماعة المتماسكة تحت راية القرءان.
والإسلام هو الذي مكن لأولئك الحفاة العراة رعاة الشاة والبعير والضأن من أن يأخذوا قياصرة الروم في الغرب، وأكاسرة الفرس في الشرق من نواصيهم عنوة واقتدارا ليتربعوا فوق عروشهم الباذخة في سيادة العالم، وقيادة الحضارة.
والإسلام هو الذي زلزل الأرض وجعلها تميد تحت أقدام الجيوش الأوربية طوال مائتي سنة من الحروب الصليبية، ثم جعل هذه الجيوش التي أعمى أبصارها الجشع والطمع والشره، إلى امتصاص الدماء وتخريب العمران، تنكفئ خاسئة مدحورة من حيث أتت لم تغن عنها كثرة العدد ولا قوة العدد، ولا جبروت أباطرتها ولا أحقاد رهابنتها.
والإسلام هو الذي طأطأ له هامات الغزاة من البرابرة المتوحشين حين كبح موجتهم المرعبة، وصد جحافلهم المفزعة عن تقويض دعائم الحضارة وتدمير معالمها، ثم لجم جنكيز خان وتيمور لنك عن إغراق آسيا وأفريقيا وأوربا بويلات الحرب المدمرة التي لولا هذا الدين وأهله كادت تترك هذه القارات الثلاث قاعا صفصفا كأنها لم تغن بالأمس ولم تعرف الوجود ولا الحياة.
والإسلام هو الذي أخرج الأتراك العثمانيين من تحت الخيام التي لم تعرف الاستقرار، وحمل جموعهم التي آمنت به على صهوات الخيول عبر مجاهل آسيا إلى أن بلغ بهم أسوار فيينا، ورفع أيديهم القوية بالرماح المشرعة ليدقوا بأسنتها الحادة أبواب هذه المدينة ذات الأسوار المنيعة والأبراج الحصينة مرتين في خلال قرنين، وهموا بافتتاحها لولا أن تضافرت عليهم قوات الخصوم الألداء بقضها وقضيضها، وخيلها ورجلها، فلما زالت وطأة هؤلاء العثمانيين لم تزل هيبتهم، بل بقيت جاثمة بالخوف والرعب تعبر عنها سطور حفرها هلع الغرب وفزعه بكلمات من الصخر الأصم، قدت على باب كنيسة سان شتيفانو الكبرى، في عاصمة آل هابسبورغ بالنمسا، جاء فيها دعاء القارة الوجلة: “اللهم احفظنا من الحريق ومن فيضان الدانوب ومن الأتراك” (أي المسلمين)…
أجل، إن الإسلام هو وحده قد فعل كل ذلك، سواء في الماضي البعيد أو في الأمس القريب، وهو وحده القادر على أن يكون في الحاضر والمستقبل، الجواب الصحيح في بحثنا عن القيادة التي نحتاجها في مواجهتنا للتحديات التي تجابهنا اليوم باغتصاب اليهود لأوطاننا واحتلالهم لمقدساتنا وإذلالهم لكرامتنا وتهديدهم لكياننا.
ولعل المسلمين اليوم، ما يزالون يذكور ما حصل لأسلافهم بالأمس، وذلك يوم طلب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه البطل المسلم الكبير سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه أن يعتزل القيادة ويستمر في المعركة جنديا متواضعا تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وقال قولته المشهورة:
“والله ما عزلت خالد لريبة في دينه ولا شكا في قيادته، ولكن خفت أن يفتتن به المسلمون فيحسبون أنهم ينتصرون بخالد، وليس بالإسلام، فأردت أن يعرفوا أنهم وخالد إنما ينتصرون بالإسلام..”.
أجل، بالإسلام تم انتصار المسلمين من قبل، وبالإسلام سيتم انتصار المسلمين الآن ومن بعد.
وإذا لم يكن بد من ختام لهذا الكلام فإننا نقول في صراحة لا تشوبها شائبة من التردد وفي ثقة لا تحمل أي معنى من معاني الشك:
أن الحل الأول لمشكلتنا الراهنة مع الاستعمار اللئيم والصهيونية الفاجرة، هو الحل الأخير..أنه الإسلام أيها المسلمون.
طه الولي
مجلة دعوة الحق العدد
السادس والسابع السنة الحادية عشرة
صفر 1388 ماي 1968