طلع علينا أحمد عصيد بمقال بعنوان: “الأخلاق الدينية ولعبة الأقنعة”، تحامل فيه بشكل سافر على أخلاق ومبادئ وقيم الإسلام، وادعى أن قيم الغرب أعلى وأسمى وأنسب وأصلح.
ويأتي مقال عصيد في ظل ظروف وأجواء محمومة وحملة مسعورة، على قيم وثقافة وأخلاق ودين المغاربة، تقودها حفنة من العلمانيين المرتبطين بأجندات وتمويل أجنبي، حملة سافرة تدعو بكل وقاحة إلى حرية الجنس والردة والإجهاض وحق الإفطار العلني في رمضان، وحرية التصرف في الجسد، توجت بمسرحية وقحة هابطة منحطة بعنوان “ديالي”، هجمة علمانية حاقدة لا تقل ضراوة عن حروب الاستعمار والاحتلال الأجنبي لأراضينا.
وعلى اعتبار أن هذه الدعوة العصيدية لا تستند إلا على انطباعاته الشخصية المحكومة بإيديولوجية علمانية إقصائية حاقدة، وأن تحليلاته سطحية متهافتة يمكن أن ترمى بها كل الدعوات على اختلاف مشاربها؛ وحيث أن مقاله يفتقد لأي أساس علمي أو منطقي، بل اعتمد فيه على لغة إنشائية وانطباعات نفسية ولعبٍ بالعبارات للتنفيس عن حقد دفين ليس له علاقة بالنقد والتصويب المستند للحجة والدليل والبرهان، فيسهل على أي تلميذ مبتدئ أن يرميه بنفس اتهاماته ويصفه بما يصف به غيره ويقلب عليه الطاولة بنفس عباراته وتحليلاته المبتذلة.
لذلك ارتأيت أن أرد عليه بنفس أسلوبه معتمدا مقاله ومكتفيا بتغيير بعض المصطلحات والعبارات، فعوضت الإسلامي بالعلماني؛ والقيم الإسلامية بالقيم الكونية، والنماذج التي أسماها بأنظمة الحكم الإسلامي الشمولي، بنماذج لأنظمة الحكم العلماني الشمولي، بل بنماذج لدول ديمقراطية هي المثال والقدوة عند العلمانيين والحداثيين.
فكان المقال: ردا من عصيد على عصيد، أسميته: الأخلاق العلمانية ولعبة الأقنعة، وهذا نصه:
لم يفهم العديد من العلمانيين، وخاصة منهم الذين تحمسوا للدعوات التي أطلقتها جهات معلومة عن الحريات الفردية وعلى رأسها الحرية الجنسية، معنى أن نتحيز للقيم الإسلامية، والخصوصية الثقافية والأخلاقية لبلدنا، ضد أية قيم كونية مزعومة وأخلاق غربية ملغومة، تنتهي غالبا إلى إهانة الإنسان المغربي وتمييعه وسلخه عن قيمه وثقافته، بحيث يصبح مسخا مشوها ليس له هوية.
وذهب البعض منهم من الذين يقرأون مواقف غيرهم بتسرع، إلى أننا ضد الحريات بإطلاق، والحقيقة أن الأمر يتعلّق بالدفاع عن الحرية في إطار خصوصيات وثوابت المغاربة، ولا يمكن أن تجد حرية مطلقة في دول العالم بأسره، حرية لا تؤطرها ثقافة ومرجعية معينة، وهو واقع لا ينكر ومسلمة لا تناقش، كما أننا ندافع عن سمو القيم والأخلاق الإسلامية وأيضا الإنسانية التي لا تتعارض مع ديننا، لأن من القيم والأخلاق ما هو مشترك إنساني.
ولكن الصعوبة تكمن في إقناع المتشدّدين والمتنطعين من العلمانيين بأن تلك القيم والأخلاق المستوردة، لا يمكن أن تنفك عن بيئة وثقافة وإيديولوجية معينة، وأنه لا يكفي تسميتها كونية أو عالمية لنقبل بها.
فالمشكلة تكمن أساسا في جعل تلك القيم تكتسي طابعا مطلقا وإن كانت قد انبثقت من مجتمعات لها خصوصيتها وتكتسي طابعا مهيمنا لا لشيء إلا لأنها قيم الدول المتقدمة اقتصاديا وعسكريا والمتحكمة بالقوة في كل مفاصل الدول المستضعفة والمتخلفة، وهي قبل هذا وذاك قيم مرتبطة بالشهوة واللذة والمصلحة الفردية الأنانية الآنية، ولا يمكن تبنيها أيضا لأنها مرتبطة بالمصالح والأوضاع والسياقات التي قد تنقلب رأسا على عقب بين فترة تاريخية وأخرى.
بينما القيم الإسلامية كونها ربانية فهي أصلح وأنسب وأسمى وأرقى، لأنها من خالق هذا الإنسان الذي يعرف ما يصلحه وما يفسده.
وإذا كانت القيم المسماة كونية مثلا تتضمن بعض المبادئ الأخلاقية ذات الصبغة الكونية مثل احترام الآخر والعدل والحرية، فإنها تتضمن في نفس الوقت مبادئ لا يمكن الدفاع عنها بأي حال من الأحوال، لأنها ترتبط بسياق سوسيوثقافي وبإيديولوجية معينة كما أسلفنا، مثل إباحة الزنا وشرب الخمر وتعدد الخليلات والعري والاستهزاء بالله والأنبياء واختلاط الجنسين وارتداء أثواب معينة أو الموقف من التدين والنقاب والملتزمين وتعدد الزوجات إلخ..
فهذه كلها وكثير غيرها أخلاق علمانية خصوصية غير قابلة للتعميم على أفراد المجتمع الواحد فكيف بمجتمعات العالم، إلا في حالة قيام أنظمة شمولية ذات طابع علماني تفرض منظومة أخلاق علمانية بقوة الحديد والنار وبالرقابة البوليسية كما هو الشأن في تركيا الكمالية التي اتسعت لائحة المنع العلماني عندها لتشمل الحرف العربي؛ والطربوش العثماني، أو تونس بورقيبة أو تونس بنعلي، بل حتى فرنسا الحرية وسويسرا الديمقراطية اللتان منعتا النقاب والمآذن، أو كما كان عليه الشأن أيام الإرهاب الكنسي في القرون الوسطى الأوروبية.
غير أنّ هذه النماذج البغيضة تنطوي في صميم حقيقتها الاجتماعية على مفارقات مضحكة مبكية، فالدول التي اعتنقت هذه القيم المسماة كونية والتي تتغنى بالديمقراطية والحرية والتسامح، هي أكبر البلدان بعدا عن التسامح، ولعلنا نذكر بعجالة العقلية التي كانت تتصرف بها العلمانية التركية المتطرفة حين كانت متحكمة في كل مفاصل الدولة والمجتمع، وتحكم بعقلية استئصالية، تقوم على نظرية الوصاية على الآخرين، وتوجب على الجميع أن يكونوا علمانيين رغماً عن أنوفهم مهما كانت الأكثرية رافضة لذلك كارهة له حيث يتذكر الكل إقدام العلمانية هناك على حل أحزاب عريقة لها امتدادها وأتباعها وجذورها الضاربة في التاريخ.
أما علمانية فرنسا فلن نتحدث عن آخر مهازلها مع حرية اللباس بالنسبة للمسلمين، ولا عن محاكمتها لآخر فلاسفتها روجي غارودي رحمه الله الذي رأى أن المذابح التي تعرض لها اليهود في ألمانيا ليست بهذا الحجم المزعوم ولا دليل يثبت هذه المزاعم.
وقد كشفت هذه المحاكمة عن حقيقة الحرية وحقيقة الإعلام في بلد الحريات، لن نسهب في الحديث عن هذا وذاك، ربما لأن الأمر يتعلق بفوبيا الإسلام، أو بمصالح الصهيونية العالمية، لكن سنتحدث عن حادثة جعلت حرية التنقل المزعومة في أوروبا محط تساؤل وتشكيك، فقد أقدمت فرنسا الحرية والعدالة والمساواة على طرد الغجر القادمين من رومانيا وبلغاريا من أراضيها، وهؤلاء الغجر من مواطني الاتحاد الأوروبي، أي حقهم أن يتنقلوا في الأراضي الأوروبية، بكامل الحرية.
أما عن الحرية الدينية فقد أشار تقرير منظمة العفو الدولية، الذي صدر في 24 أبريل 2012م عن مظاهر التمييز ضد المسلمين في بعض الدول الأوروبية بما يخص (حرية التعبير) و(الحرية الدينية)، حيث أعربت المنظمة في تقريرها عن قلقها بسبب هذا التمييز، خاصةً في دول مثل فرنسا وبلجيكا وهولندا وسويسرا وإسبانيا، حيث تطرق التقرير إلى التمييز في التعليم وفرص التوظيف، ومنع بناء مساجد جديدة أو رفع مآذنها، وحظر المظاهر الإسلامية كالحجاب والرموز الدينية، بل اعتبرت المنظمة هذه الممارسات لا تتفق مع القوانين الأوروبية.
قضية التسامح تظهر جلية ولا تحتاج إلى برهان خاصة مع البلدان والشعوب المستضعفة، حيث تسلطت عليها هذه الدول العلمانية المتبنية للقيم الكونية إبان فترة الاستعمار وخربتها ونهبتها وقتلت رجالها، ولازالت تفعل ذلك وتمارس إجرامها ونهبها وسطوها على الشعوب المستضعفة لحد الساعة، ومع ذلك فهي تتغنى بالقيم المسماة كونية، وتسعى لفرضها والتمكين لها.
هذا فيما يخص علاقتها بالآخر، أما فيما يخص انعكاس تلك القيم التي تدعو لها والمسماة كونية وعالمية، فقد أنتجت دمارا وخرابا وانهيارا ومجتمعات مريضة ومنحرفة وبعيدة كل البعد عن الأخلاق الإنسانية، حيث تفشت ظواهر التفكك الأسري، وقد كشف تقرير منظمة الصحة العالمية عن حلقة أخرى من حلقات الانحلال الأوربي حيث أعلن عن تعرض أكثر من 29 مليون مسن في أوروبا للتعذيب وسوء المعاملة، لدرجة تصل إلى مقتل 2500 شخص على أيدي ذويهم.
أما الجريمة وزواج المحارم وليس فقط زنا المحارم، والإجهاض والسيدا والانتحار فإن أرقامها هي الأعلى في العالم، رغم المستوى المعيشي والرفاهية والترف المتفشي، ورغم المستوى التعليمي العالي ورغم التربية الجنسية والعلاقات المفتوحة.
وهذا ما يكشف عن سطحية مفاهيم “الحرية” و”التربية الجنسية” و”الانفتاح” لدى المتسيبين والمتهتكين، لأنها مفاهيم غير مرتبطة بحق وباطل وحساب وعقاب وجزاء، ومن ثم فمهما حاولت أن تضبط وتوجه وتعدل وتجرب فلن تكبح الرغبات والنزوات والأنانية التي تنتج كل أنواع الجرائم التي ذكرنا.
ومهما حاولت أن تسبغ على المرأة الغربية من صفات العفة والكرامة في أجواء التهتك والحرية بعيدا عن الأوامر الإلهية فلن تستطيع، فالمرأة التي يتم تلفيفها في أنواع القماش البراق واللامع والقصير والشفاف، هي أبعد ما تكون عن العفّة والكرامة في واقع الأمر.
إن ما يهدف إليه المتطرفون ومروّجو الإيديولوجية العلمانية باللغط الذي يحدثونه بين الفينة والأخرى حول القيم الكونية وسمو المواثيق الدولية هو إعادة الدولة الثيوقراطية تحت غطاء اللادينية، وإعادة الاستعمار لعقولنا بعد أن طردناه من أراضينا، وذلك بصنع واجهة تدعو للحرية والعدالة التي تخفي وراءها كل أنواع الانحراف المشينة، والأمراض النفسية والتناقضات القاتلة، في مناخ من الرقابة وعنف السلطة وظلام الروح.
إنها لعبة أقنعة فجّة ونماذج مجتمعية فاسدة غير صالحة للاستيراد، ومن المؤسف أن ثمة من يسعى إلى زرع بذرتها الخبيثة في المغرب، مما ستكون له عواقب وخيمة على الوعي العام وعلى الخصوصية المغربية وثقافة ودين وأخلاق أجيالنا القادمة بكاملها، إذا لم تتنبه الجهات المسؤولة عن الشأن الديني والثقافي والتاريخي والهوياتي لهذا البلد؛ فعلى كل القوى في هذه المجالات أن تتعبأ للعمل في عمق المجتمع لتجاوز عوامل التخلف والنكوص والردة والتردي والإلحاق والإتباع والاستعمار الفكري والثقافي، الذي يتولاه نخبة من العلمانيين.