لو كانت فرنسا حريصة بالفعل على ميراث الثورة الفرنسية وقيمها “الكونية” من حرية وعدالة ومساواة لكفت نفسها عن دعم الانقلابات العسكرية الدموية التي تحصل في أكثر من بلد إفريقي واقع تحث نفوذها، فالأرقام تقول أن في الخمسين عاما السابقة حدث ما مجموعُه 67 انقلابًا في 26 دولة إفريقية، 16 منها كانت ترزح تحت الاستعمار الفرنسي ما يعني أن 61% من الانقلابات حدثت في إفريقيا الواقعة تحث النفوذ الفرنسي وبرعاية مباشرة منه.
استغربنا من قبل كيف انكشفت سوءة التنوير الفرنسي مع أول هجمة للبغدادي على شوارع باريس، حين أعلن الرئيس الفرنسي فرنسو أولاند عقب هجمات باريس 2015 عن سلسلة من الإجراءات مست صميم التنوير وجوهر قيم الجمهورية؛ من سحب للجنسيات، وتمديد لحالة الطوارئ، وتعديل للدستور بما يسمح بتفعيل إجراءات مكافحة الإرهاب دون إعلان حالة الطوارئ مستقبلا، وطرد الأجانب المشتبه بهم، وتعديل نصوص القانون، وتعزيز استخدام التكنولوجيا في مكافحة الإرهاب (تقنين التجسس واقتحام الخصوصية).. إجراءات رآها البعض حينها ملامح لجمهورية سادسة في طور التكوين، كما كشفت عن المدى المهول الذي وصل إليه مأزق التنوير في عقر داره.
لم تكن تلك المرة الأولى التي تنكر فيها أحفاد فولتير لثالوث “الحرية والمساواة والإخاء” بالنظر إلى تاريخهم القائم على استعباد الشعوب ونهب مقدراتها واحتلال أوطانها، لكنها من المرات القليلة التي انتهكت فيها فلسفة التنوير في منبعها ومسقط رأسها.
وهن التنوير وهشاشة قيم الجمهورية القائمة على الحرية والتنوع والعلمانية لم تكشفه فقط هجمات البغدادي، بل مثلث واقعة حظر لباس البحر المعروف “بالبوركيني” أحدث تجلياته وأكثرها استدرارا للذهول و المفارقات.
لقد اعتبر السيد مانويل فالس رئيس الحكومة الفرنسية لباس “البوركيني” دون سواه من عشرات الآلاف من قطع الأزياء والموضة “ترجمة لمشروع سياسي ضد المجتمع مبني خصوصا على استعباد المرأة”، وأنه يشكل تهديدا لهوية المجتمع الفرنسي وقيمه العلمانية كما علق عدد من رموز الدولة الفرنسية.
سيجد المرء صعوبة في فهم كيف يمكن لقطعة قماش أن تشكل تهديدا للعلمانية وهوية المجتمع الفرنسي، وكيف يمكن لمراهقة مستلقية على رمال الشاطئ أن تكون جزء فاعلا في “مشروع سياسي” يهدد استقرار المجتمع الفرنسي وعلمانيته المستحكمة الجذور، ما أتعس إذن تلك العلمانية وذلك التنوير إن كان يضيق صدره حرجا بفتاة اختارت لنفسها زيا وجدت فيه ذاتها وراحتها، هل إرث الثورة الفرنسية بذلك التداعي والتهافت بحيث تنال منه قطعة قماش وتستفزه سيدة مستجمة على رمال الشاطئ.
في البلاد الإسلامية يُدافعون عن حق النساء في اختيار شكل أزيائهن -سفورا وحجابا- لأن ذلك في نظرهم يكرس لمظاهر التنوع والحرية الفردية كروافد للمجتمع المتحضر الحديث؛ المستوعب لجميع مكوناته وشرائحه، وأيضا تعبيرا عن سماحة الإسلام وتقبله للآخر، لكن سرعان ما تنهار هذه المبادئ والتوصيات عندما يتعلق الأمر بمجتمعاتهم، فلا سبيل للحديث عن تعددية ولا حرية اختيار ولا تنوع ولا سماحة، بل دفاع متطرف عن مجتمع علماني إقصائي مغلق، يرى في أي مظهر إسلامي ولو كان رمزيا تهديدا لوجوده وانتهاكا لهويته.
أُغرقت الفضاءات الثقافية والسياسية حينا من الدهر بنقاشات مبتذلة عن أهمية تسامح الإسلام والبحث فيه عن مساحات للوسطية والاعتدال، وتطويع نصوصه -تأويلا وتجاوزا- بما يتيح تشييد نماذج وأنماط من التدين يمكن اعتمادها بديلا عن الإسلام “الإقصائي الماضويّ” وسودت لأجل ذلك مئات الكتب والدراسات وعدلت مناهج دراسية وجُيشت جيوش من الدعاة والمفكرين يخطبون في الناس صباح مساء؛ أن الإسلام دين التسامح والرحمة والتعددية، ينشد الحرية والحكم المدني حيث حريات الناس وحقوقهم كلها مكفولة. لكن الحاصل بعد حين أن الذين صدروا أنفسهم أوصياء على الحرية والعدالة والمدنية والتعدية كانوا أول من تنكر لهذه القيم وداسوا عليها بالدبابات وسفهوا دعاتها وعلقوهم على المشانق وارتكبوا بحقهم مجازر لا تحصى. وكان الإسلام الذي لطالما حُشر دعاته وحركاته في خانة المعادين للحقوق الحريات أكبر ضحاياهم، ولك أن تنظر في نماذج ذلك تثرى من الجزائر إلى تركيا.
في الواقع لو كانت فرنسا حريصة بالفعل على ميراث الثورة الفرنسية وقيمها “الكونية” من حرية وعدالة ومساواة لكفت نفسها عن دعم الانقلابات العسكرية الدموية التي تحصل في أكثر من بلد إفريقي واقع تحث نفوذها، فالأرقام تقول أن في الخمسين عاما السابقة حدث ما مجموعُه 67 انقلابًا في 26 دولة إفريقية، 16 منها كانت ترزح تحت الاستعمار الفرنسي ما يعني أن 61% من الانقلابات حدثت في إفريقيا الواقعة تحث النفوذ الفرنسي وبرعاية مباشرة منه.
كما لا تزال 14 دولة إفريقية ملزمة من فرنسا عبر “وثيقة استمرارية الاستعمار” بوضع 85% من احتياطاتها الأجنبية في البنك المركزي الفرنسي وتحت سيطرة وزير المالية الفرنسي، وهي الوثيقة التي تنص على أن من حق فرنسا أن تحصل على تعويضات من بعض مستعمراتها السابقة مقابل ما “أنجزته” فرنسا فيها.
وحتى لا نذهب بعيدا ففرنسا هي من يوفر جميع أنواع الدعم العسكري واللوجستي لزعيم الحرب الليبي خليفة حفتر في حربه ضد الثوار في عديد من المناطق الليبية مع وجود الأخير في قائمة العقوبات الأممية وارتكابه لجرائم ضد المدنيين من نساء وأطفال وبنى تحتية.
الذي يستمع إلى تصريحات رئيس الحكومة الفرنسية مانويل فالس التي اعتبر فيه لباس البحر البوركيني “ترجمة لمشروع سياسي ضد المجتمع مبني خصوصا على استعباد المرأة” وتصريحات وزيرة حقوق المرأة “لورانس روسينول” التي اعتبرته “رمزا لمشروع سياسي معاد للتنوع ولحرية المرأة” لا يملك إلا أن يُحيي هذه الحساسية المرهفة اتجاه كل ما يمكن أن يمس حرية المرأة ومكانتها داخل المجتمع. لكن ماذا لو استقصينا بعضا من رصيد فرنسا في مجال صيانة حقوق المرأة وحرياتها، ولنأخذ المغرب كحالة يمكن أن تعمم على جميع مستعمرات فرنسا في إفريقيا.
“بوسبير” اسم لحي في مدينة الدار البيضاء خصصته الإدارة الاستعمارية لتقديم الخدمات الجنسية إلى الجنود الفرنسيين، وتُستقدم النساء المغربيات إليه قسرا من جميع أنحاء المغرب، ويضم ما يقارب الألف امرأة من مختلف الشرائح العمرية، وقد تم إنشاء بيوت المتعة بموجب مرسوم استعماري صدر في 16 أبريل من عام 1924 ويتم بمقتضاه إجبار الفتيات والنساء المغربيات على تلبية مطالب الجنود الفرنسيين الجنسية ضدا عن إرادتهن.
ولم يكن حي “بوسبير” الوحيد في المغرب بل أُنشأت معه أحياء وبيوتات متعة في جل المدن المغربية لعل من أشهرها حي “وقاصة” في مدينة الرباط وفي مراكش حي “عرصة موسى” وفي المحمدية “سفانكس” وفي فاس اشتهرت “قصبة بوجلود” و”قصبة تامريرت” وغيرها الكثير من الأحياء التي رعاها “التنوير الفرنسي” وأُرغمت فيه النساء على تقديم خدمات الجنس للجنود الفرنسيين. وبوسع الباحث أن يطبع كلمة “بوسبير” على محرك البحث غوغل ليعاين بنفسه عشرات الصور التي أرخت “لأمجاد” التنوير الفرنسي ومنجزاته الخالدة فيما يتعلق بتحرير المرأة من الاستعباد وصيانة حقوقها من الانتهاك. وما يقال عن المغرب ينسحب على كل الدول التي مسها طائف من الاستعمار الفرنسي.
عجيبة إذن تلك القيم الجمهورية العلمانية التنويرية التي لم ينل منها هذا الإرث الثقيل من العار، والسجل الممتد من الجرائم ضد الإنسان، كيف تتحسس من قطعة قماش اتخذتها المرأة لباسا لها عن سابق اختيار وإرادة، وكيف اعتبرت ذلك مظنة استعبادها وعدوانا على حريتها، بينما تاريخها وواقعها (أي القيم العلمانية التنويرية) يشهدان على زيف مزاعمها وتهافت دعاويها.