الـــثـــورة الـــمـــصـــريـــة

ظلت الشعوب العربية على صفيح ساخن ملتهب، يثير اندلاع ثورتها أدنى شرارة، فقد حُكِمَتْ هذه الشعوب الإسلامية بغير الشريعة زمناً طويلا، ووقف حكامها في وجه الدعوات الإسلامية وآذوا أتباعها، ودعموا الأفكار والمشاريع التغريبية التي تريد تغيير وجه المجتمع الإسلامي، ومنعوا حقوق الشعوب، وسرقوا أموالهم.
وحينما هبت الثورة في تونس -التي أسقطت حكومة زين العابدين بن علي- بالشرارة التي أشعلها الشاب محمد البوعزيزي انتقلت الثورة إلى مصر من خلال مظاهرات الشعب المصري المطالِبة بإسقاط الرئيس والنظام، بعد انتشار الفساد والظلم ونهب الثروات والتنسيق مع الأعداء ضد مصالح البلاد وأهلها، واستمرت المظاهرات على الرغم مما تعرض له الشعب المصري من قمع وقتل وترويع خلال مظاهراته السلمية.
ومن حق الشعب المصري أن يُحكم بشريعة الله تعالى، وأن يُعطى حرية الدعوة والإصلاح، وأن تُحفظ حقوقه المالية والاعتبارية، فهو شعب مظلوم ومن حقه أن يطالب بإزالة الظلم عن نفسه، ولما طالب بحقوقه بصورة سلمية تعبيرا عن رفضه للنظام الفاسد قام هذا النظام بزيادة الظلم عليه من خلال القتل والترويع والإيذاء والقمع.
وأمام هذه النازلة تفاوتت الآراء والاجتهادات، وعلى الرغم من أن مسألة الحكم الشرعي على هذه المظاهرة تُعتبر مسألة فقهية اجتهادية إلا أن إغفال التعليق على حق المظلومين في دفع الظلم والعدوان والحكم بغير الشريعة عن نفسه يُعد اختزالاً للمشهد، لاسيما وأن ذلك مرتبط بالقضايا الشرعية والإجماعية الكبرى من وجوب تحكيم الشريعة، وتحريم الظلم والعدوان، خصوصا وأن سلبيات المظاهرات السلمية التي تم التركيز عليها لا تُقارَن بممارسات النظام في الميزان الشرعي.
وفي الوقت ذاته نجد بعض المثقفين المهمومين بالإصلاح السياسي يركزون على شعارات غير شرعية، ومفاهيم ليبرالية كالمطالبة بالحرية المطلقة، وتحقيق إرادة الشعب، والإشادة بالتيارات الفكرية المحاربة للدين كالعلمانيين والشيوعيين لمجرد مطالبتهم بالحرية، ومشاركتهم في المظاهرات، وتم إهمال المفاهيم الشرعية الكبرى في خطابهم كالحكم بالشريعة وإقامة الدين، وربط الإصلاح بالمنطلقات الدينية والعقدية.
وقد وُجِدَ من الداخل المصري من حاول الموازنة بين المطالب المشروعة ودفع الظلم؛ وأيد هذه المطالب إذا انطلقت من منطلقات شرعية، وحذروا مما يوجد في هذه الاحتجاجات من الأخطاء؛ فقد أصدرت الهيئة الشرعية لحماية الحقوق والحريات بياناً حثت فيه انتفاضة الشباب المصري؛ وأكدت على تضامنها مع مطالبه المشروعة. ومن أبرز الموقعين على البيان مفتي الديار المصرية السابق.
وأكدت الهيئة -وهي هيئة علمية حديثة التكوين من علماء الأزهر وعلماء ودعاة ينتسبون إلى الدعوة السلفية- على أن الأمة لن تسمح بالمساس بالمادة الدستورية التي تنص على أن الإسلام هو دين الدولة والشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع.
وناشد البيان جميع المسؤولين عن البلاد بحقن الدماء وحفظ الأرواح وضبط الأمن، وسرعة اتخاذ الإجراءات لمحاسبة الفاسدين دون إبطاء.
واعتبر البيان أن المقتولين من أهل الإيمان بسبب الاعتداء عليهم شهداء عند الله تعالى، مشدداً على ضرورة تعويض أهلهم عما لحقهم من الخسائر والأضرار في الأنفس والممتلكات.
وأشاد البيان بالموقف الوطني المشرف للجيش المصري ورسالته في حفظ أمن الوطن والمواطنين؛ كما دعا الشعب المصري إلى العفو والصفح عن كل من أساء أو اعتدى بشرط تحقق المطالب، ونجاح المقاصد.
..وعلى الصعيد السياسي يرى مراقبون أن هناك تشكل جديد في منطقة الشرق الأوسط لتغيير أنماط الحكم فيها كما تشير إلى ذلك الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة التي بدأت أولاها بغزو العراق، وأن الحكومات الغربية بدأت تشعر بتململ الشعوب العربية، وأن أوان التغيير قد أزف، فأرادت أن يكون التغيير على شروطها مما دفعها للتخلي عن حلفائها، فالغاية تبرر الوسيلة، والمحافظة على مصالحها الإستراتيجية فوق كل اعتبار.
وفي حين يراهن البعض على إرادة الشعوب المسلمة في اختيار من يحكمها؛ تشير الدلالات إلى أن هذا سراب لا وقوع له إذا تمسك أولئك بخيار الديمقراطية؛ بعدما حصل الإجهاض الغربي السريع لجبهة الإنقاذ في الجزائر والتنكر لفوز حماس حينما توصلت للسلطة بانتخابات نزيهة، فلم تتحقق إرادة الشعب المسلم لأن ذلك يهدد مصالح الغرب كما هي السنة الربانية في الصراع بين الحق والباطل الذي لا تكون اللغة الحاضرة فيه إلا لغة القوة بمعناها العام الشامل، وقد قال الله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)، ولذلك قال تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ).
وهذا ما يجعل بعض المتابعين يؤكد أن المصالح الغربية تكون في دعم استبداد الأنظمة العربية وإعطاء حريات محدودة تخفف الضغوط وتبقى المنطقة تحت السيطرة.
ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى أهمية دور العلماء في تصحيح مسيرة هذه الاحتجاجات وتوجيه شعاراتها ومطالبها للغايات الكبرى؛ مثل: الحكم  بالشريعة الإسلامية بين الناس، وإقامة الدين في المجتمع، وبناء الدولة ومؤسساتها على منهج الإسلام، وضبط الدستور ومرجعيته وتطبيقاته لضمان عدم الاعتداء بتحكيم القوانين الوضعية، أو الاستبداد في إدارة شؤون الناس وأموالهم، وبهذا يتحقق العدل في أكمل صوره، خاصة وأن المحرك الرئيسي للاحتجاجات بهذه الكثافة الكبيرة هي الجماعات الإسلامية والمتأثر بهم من الشباب وعامة الناس. (عن مركز التأصيل للدراسات والبحوث؛ بتصرف).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *