نال العلماء السؤدد بعلمهم، لا بجاههم ولا أموالهم.. كما قال تعالى: “نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء”، قال مالك رحمه الله: “بالعِلم” جامع بيان العلم وفضله 1/194، ولذا أنيطت بهم مهمة البلاغ، والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بالحق -بشرطه وفي محله-، فإن “العلماء ورثة الأنبياء” في التعظيم والإجلال، وكذا في إقامة الحجة على الناس والبيان، الذي هو أحد قسمي الغلبة كما قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: “وقد حقق العلماء أن غلبة الأنبياء على قسمين: غلبة بالحجة والبيان وهي ثابتة لجميعهم، وغلبة بالسيف والسنان وهي ثابتة بخصوص الذين أمروا منهم بالقتال في سبيل الله” الأضواء 1/353.
وغلبة الحجة والبيان هي الأصل والأساس لكل غلبة وقوة، والمقدمة على الحفاظ على الأجسام والدور والبنيان.
ووجه ذلك أن “للقوة والسلطان أثر في الأبدان، وأثر في الأرواح، وأقوى الأثرين تأثيرا وأظهرهما وسما، وأبقاهما على المدى، ما كان في الأرواح، لأن التسليط على الأبدان يأتي من طريق الرهبة، والرهبة عارض سريع الزوال، أما التسلط على الأرواح فبابه الرغبة، والدافع إليه الاقتناع والاختيار” عيون البصائر للإبراهيمي رحمه الله 333.
وللعلماء سلطان الأرواح لمكانة عِلمِهم وقوة بيانهم، وغلبة حججِهم المستمدة من النصوص الشرعية، والعقول السليمة الفطرية.
فحال الناس مع علمائهم ظاهر، والخضوع لكلامهم وتقريراتهم سائر، وميل النفوس إليهم قاهر..
ولذا يجب على أهل العلم القيام بحقيقة العلم علما وعملا وبلاغا، لا مجرد صورته جهلا وكسلا وتخلفا.
قال العلامة السعدي رحمه الله: “ومن أعظم ما يتعين على أهل العلم: الاتصاف بما يدعوا إليه العلم من الأخلاق والأعمال والتعليم، فهم أحق الناس بالاتصاف بالأخلاق الجميلة، والتخلي من كل خلق رذيل. وهم أولى الناس بالقيام بالواجبات الظاهرة والباطنة وترك المحرمات، لما تميزوا به من العلم والمعارف التي لم تحصل لغيرهم، ولأنهم قدوة للناس، والناس مجبولون على الاقتداء بعلمائهم شاءوا أم أبوا في كثير من أمورهم، ولأنهم يتطرق إليهم من الاعتراض والقوادح عندما يتركون ما يدعوا إليه العلم أعظم مما يتطرق إلى غيره” الفتاوى السعدية 460.
لكن ليس كل من صعد المنبر عالم؟!!
ولا كل من اجتمع الناس حوله وأشير إليه بالبنان فاهم؟!!
ولا كل من أزبد وأرعد هو بالحق قائم؟!!
ولا كل من لبس زيّ العلماء فهو بقانون العلم حاكم؟!!..
إلى غير ذلك من المعايير المعكوسة التي اتخذها الناس كأساس لمعرفة العلماء، وتعيين الفقهاء..
إنما العالم حقا، والذي تسعد به الأمة صدقا، هو العالم الرباني الذي يقوم بما أنيط به شرعا وعقلا، لا من يتخلف عن ركب الدعوة إلى الله دوما! ويكسل عن الجد والاجتهاد تعلما! ويخوض فيما لا يعنيه تملقا! وينغمس في سفاسف أمور الدنيا تنعمنا!..
لا عالم السوء الذي يحسن زخرفة الألفاظ -فحسب- ويجيد سبك العبارات، ويبرع في شقشقة الكلام، وهو خواء من الفضائل، عار من الخيرات، غلبت الغفلة على قلبه فأفاضها على جوارحه، يحسبه الظمآن ماء، وما هو إلا سراب بقيعة، يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يؤمر ويعرض عما ندب إليه..
حرم نور الحكماء، وضيع عزة الفهماء، وخذله رب الأرض والسماء، فأظلمت به الأرجاء، فحل في الأمة داء وأي داء.
فنأمل أن تعم للعلماء الفضلاء مكانتهم عند الأنام كما كان الحال في غابر الأزمان بحيث كان مقامهم -آنذاك- يحتل مقاما فسيحا في الجنان، إذ كانوا على الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح الكرام، ولذلك أصبحت لهم المهابة والجلالة، فالعالم حقا “له الشوكة بالضرورة القطعية، وهي العلم الذي عنده، كما قيل: من درس والناس نيام تكلم والناس قيام” المدخل لابن الحاج رحمه الله 771.