الأمانة خلق الأمة

من مطالب الدين العلية، وتعاليمه السمحة الصافية النقية الحث على أداء الأمانة وصيانتها من التقصير والخيانة، ومكانتها من الدين كمكانة القطب من الرحى، فمدار الدين عليها وهي شعبة من شعبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له” صحيح الترغيب والترهيب.
والمعنى نفي كمال الإيمان الذي يستحق صاحبه دخول الجنة، فالذي لا أمانة له مخل بهذا الإيمان الواجب تحصيله، لا أنه فاقد لحقيقة الإيمان بالكلية، ويظهر من ثنايا هذا الترهيب الشديد شرف هذا الخلق في الإسلام.
قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}؛ وهذه الأمانة هي فرائض الله وشرائعه وتكاليفه، كما قال غير واحد من أهل التفسير.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “الصلاة أمانة والوضوء أمانة والوزن أمانة والكيل أمانة “وأشياء عدها ثم قال “وأشد ذلك الودائع”.
قال زادان -وهو أحد الرواة-:فأتيت البراء بن عازب فقلت: “ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود قال كذا قال كذا”؛ قال: “صدق أما سمعت الله يقول: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا). صحيح الترغيب والترهيب.
فمن لم يطع الله بأداء حقوقه وحقوق عباده، فهو ظالم لنفسه بذلك، جاهل بما تحمل من الأمانة خائن لها، والله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
فدين الله أمانة، والقيام بفرائضه وحدوده على ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم أداء لها، وترك العمل بهذه الفرائض والحدود خيانة لله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ووبال هذه الخيانة على صاحبها فالله لا تضره معصية ولا تنفعه طاعة، قال تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم (وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا)، فنسب الله خيانتهم لأنفسهم لأن ضررها عليهم في الدنيا والآخرة.
والأمانة أول ما أنزلها الله في أصل قلوب الرجال، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: “حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمانة نزلت من السماء في جذر قلوب الرجال ونزل القرآن فقرؤوا القرآن وعلموا السنة” متفق عليه.
والجذر بكسر الجيم وفتحها الأصل من كل شيء، فهي إذاً قِسْمُ وعطاء منزّل من الله، مثبّت في قلوب من شاء من عباده، فأخلاقهم مقسّمة عليهم كأرزاقهم.
فكان من استمكنت الأمانة من قلبه وزرعت فيه، إذا تعلّم من كتاب الله شيئا أو من سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم منتفعا بذلك غاية الانتفاع، لأنه ستحمله أمانته على امتثال الأوامر، والانتهاء عن النواهي، وفي هذا المعنى يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف” رواه مسلم.
فمن كان خيّرا في جاهليته لأمانته، فهو الخيّر في الإسلام بها، إذا انضم لذلك فقه في دين الله عز وجلّ، فهذه الشريعة جاءت لتتمم ما صلح من الأخلاق، قال عليه الصلاة والسلام: “إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق” الصحيحة.
ومن الميادين التي تكشف مقدار أمانة الرجال على محكّها، وتميّز نفائس المعادن من مغشوشها، مخالطة الناس ومعاملتهم، ولقد ضرب أسلافنا من الصحابة والتابعين في هذا الباب أروع الأمثلة، كان نتاجها إسلام كثير من شعوب جنوب شرق آسيا، لأجل ما رأوا من تحري القوم للصدق والأمانة، وبعدهم عن المكر والخداع، فحداهم ذلك للإسلام حدوا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *