قد أمر الله تعالى بالدعاء إلى سبيله بالتي هي أحسن، أي بأقرب طريق موصل للمقصود، محصل للمطلوب، ولا شك أن الطرق التي سلكها الله في خطاب عباده المؤمنين بالأحكام الشرعية هي أحسنها وأقربها.
فأكثر ما يدعوهم إلى الخير وينهاهم عن الشر بالوصف الذي مَنَّ عليهم به وهو الإيمان، فيقول: يا أيها الذين آمنوا افعلوا كذا واتركوا كذا لأن في ذلك دعوة لهم من وجهين:
أحدهما من جهة الحث على القيام بلوازم الإيمان، وشروطه ومكملاته، فكأنه يقول: يا أيها الذين آمنوا قوموا بما يقتضيه إيمانكم من امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، والتخلق بكل خلق حميد والتجنب لكل خلق رذيل .
فإن الإيمان الحقيقي هكذا يقتضي، ولهذا أجمع السلف أن الإيمان يزيد وينقص، وأن جميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة من الإيمان ولوازمه، كما دلت على هذا الأصل الأدلة الكثيرة، من الكتاب والسنة ـ وهذا أحدها ـ حيث يصدر الله أمر المؤمنين بقوله: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا” أو يعلق فعل ذلك على الإيمان، وأنه لا يتم الإيمان إلا بذلك المذكور.
والوجه الثاني أن يدعوهم بقوله “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا” افعلوا كذا، أو اتركوا كذا، أو يعلق ذلك بالإيمان، يدعوهم بمنته عليهم بهذه المنة، التي هي أجل المنن، أي: يا من مَنَّ الله عليهم بالإيمان، قوموا بشكر هذه النعمة، بفعل كذا وترك كذا .
فالوجه الأول: دعوة لهم أن يتمموا إيمانهم، ويكملوه بالشرائع الظاهرة والباطن .
والوجه الثاني: دعوة لهم إلى شكر نعمة الإيمان، ببيان تفصيل هذا الشكر، وهو الانقياد التام لأمره ونهيه، وتارة يدعوا المؤمنين إلى الخير، وينهاهم عن الشر، بذكر آثار الخير، وعواقبه الحميدة العاجلة والآجلة، وبذكر آثار الشر، وعواقبه الوخيمة في الدنيا والآخرة .
وتارة يدعوهم إلى ذلك بذكر نعمه المتنوعة، وآلائه الجزيلة، وإن النعم تقتضي فهم القيام بشكرها، وشكرها هو القيام بحقوق الإيمان .
وتارة يدعوهم إلى ذلك بالترغيب والترهيب، ويذكر ما أعد الله للمؤمنين الطائعين من الثواب وما للعصاة من العقاب .
وتارة يدعوهم إلى ذلك بذكر ما له من الأسماء الحسنى، وما له من الحق العظيم على عباده، وأن حقه عليهم أن يقوموا بعبوديته ظاهراً وباطناً، ويتعبدوا له وحده، ويدعوه بأسمائه الحسنى وصفاته المقدسة .
فالعبادات كلها شكر لله وتعظيم وتكبير، وإجلال وإكرام، وتودد إليه، وتقرب منه.
وتارة يدعوهم إلى ذلك، لأجل أن يتخذوه وحده ولياً وملجأ، وملاذا ومَعاذا، ومفزعا إليه في الأمور كلها، وينيبوا إليه في كل حال، ويخبرهم أن هذا هو أصل سعادة العبد وصلاحه وفلاحه، وأنه إن لم يدخل في ولاية الله وتوليه الخاص، تولاه عدوه الذي يريد له الشر والشقاء، ويمنيه ويغره، حتى يفوِّته المنافع والمصالح ويوقعه في المهالك .
وهذا كله مبسوط في القرآن بعبارات متنوعة .
وتارة يحثهم على ذلك ويحذرهم من التشبه بأهل الغفلة والإعراض، والأديان المُبَدَّلة، لئلا يلحقهم من اللوم ما لحق أولئك الأقوام . كقوله “وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ” [الزمر: 65] “فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِين” [البقرة: 35] “وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ” [لأعراف: 205] “أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ” [الحديد:16]، إلى غير ذلك من الآيات .