هذه قاعدة شريفة جليلة قد وردت في عدة مواضع من القرآن، فمن لم يُحكمها حصل له من الغلط في فهم بعض الآيات ما يوجب الخروج عن ظاهر النص، ومن عرف حكمة الله تعالى في ورودها على الحق الصريح: لأسباب مزعجة تدفعها، أو لشبهة قوية تحدثها، ثم بعد هذا إذا رجع إلى اليقين والحق الصريح، وتقابل الحق والباطل، ووقعت الخصومة بينهما، فغلب الحقُ الباطل، ودمغه فزهق الباطل وثبت الحقُ، حصلت العاقبة الحسنة، وزيادة الإيمان واليقين، فكان في ذلك التقدير حكمٌ بالغة، وأيادٍ سابغة.
ولنمثل لهذا بأمثلة:
– أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أكمل الخلق إيماناً ويقيناً، وتصديقاً بوعد الله ووعيده، وهذا أمر يجب على الأمم أن يعتقدوه في الرسل، من أنهم قد بلغوا الذروة فيه، وأنهم معصومون من ضده، ولكن ذكر الله في بعض الآيات أنه قد يعرض لهم بعض الأمور المزعجة -المنافية حسّاً لما علم يقينا- ما يوجب لهؤلاء الكمل أن يستبطئوا معه النصر، ويقولون: “مَتَى نَصْرُ اللَّهِ”، وقد يخطر في هذه الحالة على القلوب شيء من عوارض اليأس بحسب قوة الواردات وتأثيرها في القلوب، ثم في أسرع وقت تنجلي هذه الحال وتنفرج الأزمة ويأتي النصر من قريب “أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ”، فعندئذ يصير لنصر الله وصدق موعُوده من الوقع والبشارة والآثار العجيبة أمر كبير لا يحصل بدون هذه الحالة، ولهذا قال: “حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا”، فلهذا -الوارد الذي لا قرار له، وعندما حقت الحقائق اضمحل وتلاشى- لا ينكر ويطلب للآيات تأويلات مخالفة لظاهرها.
ومن هذا الباب بل من صريحه قوله تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ”، أيْ يلقي من الشبه ما يعارض اليقين.
ثم ذكر الحكم المترتبة على الإلقاء ولكن نهاية الأمر وعاقبته أن الله يبطل ما يلقي الشيطان، ويحكم الله آياته، والله عليم حكيم، فقد أخبر الله بوقوع هذا الأمر لجميع الرسل والأنبياء، لهذه الحكم التي ذكرها، فمن أنكر وقوع ذلك بناء على أن الرسل لا ريب ولا شك أنهم معصومون، وظن أن هذا ينافي العصمة، فقد غلط أكبر غلط، ولو فهم أن الأمور العارضة لا تؤثر في الأمور الثابتة لم يقل إلا قولاً يخالف فيه الواقع ويخالف بعض الآيات ويطلب التأويلات المستبعدات.
ويشبه هذا: العوارض التي تعرض في إرادات الإيمان لقوة وارد من شهوة أو غضب، وأن المؤمن الكامل الإيمان قد يقع في قلبه همٌّ وإرادة، لفعل بعض المعاصي التي تنافي الواجب ثم يأتي برهان الإيمان، وقوة ما مع العبد من الإنابة التامة، فيدفع هذا العارض.
ومن هذا: قوله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام: “وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ”، وهو أنه لما رجع إلى ما معه من الإيمان ومراقبة الله وخوفه وخشيته ورجائه، دفع عنه هذا الهم وموجبه واضمحل، وصارت إرادته التامة فيما يرضي ربه.
ولهذا فاز بمرتبة الصديقية؛ لقوة إخلاصه ويقظة إيمانه بآيات ربه، وانتصر بعد المعالجة الشديدة من النسوة التي لا يصبر عليها إلا سادات الخلق حتى دعا ربه أن يبعده عن مواطن الفتن، فقال: “قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ”، وكان كل من يتشبه به ويقف أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله) البخاري.
وقال تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ”، يشمل الطائف الذي يعرض في أصل الإيمان أو الذي يعرض في إرادته، فإذا مسهم تذكروا ما يدعو إلى الإيمان وواجباته، من آيات الله وسننه وحكمته وأحكامه فأبصروا، فاندفعت الشبهات والشهوات فرجع الشيطان خاسئاً وهو حسير.