هذه كلمة إلى الدعاة الذين نزلوا ساحة الدعوة وخاضوا غمارها مع قُرحة في النظر، وضعف في فهم الأثر، ومخالفة ما سبق من الأمر، وسلوك مسلك فيه ما فيه من الكدر (!!)
اعلموا أنَّ الأُمَّة تنظر إلى أعمالكم، وتسمع مقالكم، وإننا نتوقع أن تشعر بما في سلوككم من اضطراب وتناقض بين المبادئ والأعمال، فتنـزع -أو تتزعزع- ثقتها لا بكم، وإنما بالدين الحق، والمنهج الصدق، وَيَذهب الحق في الباطل، وإننا –واللَّهِ- لا نرضى لكم هذه العاقبة، ولا نرضى لأُمَّةٍ فقيرة من الرجال أن يسوء ظنها برجالها!
إنَّ الدعاوى والزعم.. وتكبير الصغائر (أو الأصاغر)، وتصغير الكبائر (أو الأكابر)، كل ذلك مما لا يقوم عليه دين ولا تربية ولا خلق!
اعلموا يا رعاكم الله أنكم أحرجتمونا بأقوالكم وأفعالكم ومواقفكم! فو اللَّهِ لا أدري كيف تزعمون أنكم تخدمون (بعض مجالات الدعوة) بنهج سديد دون نظر دقيق، ولا بذل الجهد في التحقيق، بل بكلام فيه تزويق، مع الاستعجال في الطريق..
فعلى كل من يريدُ الخيرَ لنفسه ولأمَّته أن يسلك في جميع أحواله سبيل الرُّشد والإنصاف، ويعدل عن طريق التَّعدي والاعتساف، وليعلم أن الباطل لا يدوم، كما ذكر إسحاق بن راهويه لما كتب إلى أبي زرعة رحمهما الله قائلا له: “لا يهولنَّك الباطل، فإنَّ للباطل جولةٌ ثمَّ يتلاشَى” (مقدمة الجرح والتعديل 342).
إن سوء المسلك في الدعوة إلى الله من أسباب تضييع رأس المال، والقصد بذلك التحذير من جعل تلكم الثلة المقبلة على العلم والفقه، والمنكبّة على تحصيله، بمبعدة عن ذلك كله..
هذه الطلائع التي هي آمال الأُمَّة، ومناطُ رجائها، والتي لا تحقق رجاء الأُمَّة إلاَّ إذا انقطعت إلى العلم وضبطت أصوله، وهضمت فروعه شيئا فشيئا، ثم زحفت إلى ميادين العمل مستكملة الأدوات تامَّة التسلح، تتولى القيادة بإرشاد العلم، وتحسن الإدارة بمعايير الفهم، فتثأر لأُمَّتها من الجهل بالمعرفة، ومن الفقر بالغنى، ومن الضعف بالقوَّة..
هذه الثلة الحفاظ عليها، والأخذ بأيديها، والحرص على تثبيتها في سيرها على طريقها من المهمات..
اعلموا أن هذه الطائفة الطاهرة الآخذة بمناسك العلم قد ألهبتم في أطرافها الحريق بسوء تصرفكم، فبدأت تنصرف من رحاب العلم والفهم إلى أفنية الجهل والوهم، ومن ثبات وتوفيق إلى اضطراب في الطريق…
اعلم أيها الداعي أنَّ مع (السياسة) شيئًا يُسمَّى (الكياسة)، وهو خُلُقٌ ضروري عند الخلاف، حتى لا تتبعثر (القوى) معه، ولا يتشعب (الهوى) بين (الألوف) من (الأُلاّف) !
وأقول -هنا- قولة ناصح: ليس كل من تسربل بثوب (دعوة الحق) هو فاهم لمراميها العَلية على وفق سنن الله الشرعية!
ومن ثم ما ينبغي أن نسمح لمن هذا حاله أن يعمل في رياض الدعوة تأصيلا وتنزيلا (!!)، ولا (التربع) على (عرشها)! ولا النفخ في (آذان من يعيش في أكنافها)!، ولا الوسوسة في (قلوب) و(صدور) المقبل عليها!
اسلكوا -يا رعاكم الله- الصراط السوي، وإذا ظهرت الدروب ووجب الخوض فبعلم أثري، وإذا نزلت النوازل فبنظر علمي، ودعوا في ميدان ذلك كله (الرأي) المُفرق، و(الفكر) المُقلق، وتذكروا سداد النهج عند الكبار في الرخاء وعند حدوث الأخطار؛ فالتاريخ والمواقف يشهدان بأنهم نصروا الحق حيث دار، وأنهم يزنون المسالك بالصحيح من الأعمال، على أساس ثابتٍ راسخ، وبيان ناصع، وصراحة لا جمجمة فيها، وحقيقة لا يماري فيها إلاَّ ذو دخلة سيئة، أو هوى مضلّ.
يا إخواننا! اثبتوا على ما عرفتم من (الحق) و(العدل)، وهو تركة العلم بالفهم، فإنَّ بثباتكم عليه تدحضون افتراء المفترين، وتقوّل المتقوّلين، وتشكيك المتربصين، وكيد الحاسدين، وتقطعون دابرهم، وتعلون عليهم، وما ظهر منهم وما بطن، وتثبتون أنَّ مبدأكم وغايتكم أعلى و(أغلى) من (المبادئ) كلها، ما استتر منها وما علن؛ فإنَّ الدين كله يقين لا يتزعزع، وبصائر لا تزيغ.
وتنبهوا أنه لا يلزم من الكلام في (السياسة) أننا (نسوس)، ولا في (الساسة) أننا (سسنا)!، ولا أظن أن أحدًا لا يتكلم في (السياسة)! ولكن قد يكون الكلام هو (الصلب)، وغالبًا هو (الملح)!، وقد يكون في (الجهر)، وغالبًا في (السر)!، و قد يكون بحلم، وغالبًا بانفعال وردّة فعلٍ! وقد يكون بحق وعدل، وغالبًا بجهل!
نعم، تَكَلم في (السياسة) لكن بـ (فقه دقيق) و(كياسة تُجنبك التلفيق)، واحرص على (تصور مجريات الأحداث) بضابطه وشرطه، مع توظيف ذلك لترسيخ ما جاء في نصوص الوحيين الشريفين، والبُعد عن الظن والتخمين، والبقاء في دائرة اليقين!
هذه كلمات عابرة، ونصائح مريرة، وحقائق شهيرة، لم نسمِّ فيها أحدًا، ولم نقصد بها شخصا بعينه، فمن استفزّه الغضبُ منها، أو نزا به الألم من وقعها؛ فهو المريب يكاد يقول خذوني! فليراجع نفسه..