العصرانيون أو أصحاب الفكر المستنير -كما يحبون أن يسموا أنفسهم إيهاما على الناس- ليسوا سواء في منطلقاتهم وخلفياتهم، إلا أنهم التقوا في أمرين اثنين وهما: تقديم العقل على النقل، والتأثر بالفكر الوافد الغربي، وتمخض عن تينك الأمرين الطعن في المنهج السلفي النقي القائم على فهم السلف الصالح للكتاب والسنة، ولمز أتباعه: بالماضوية والرجعية.. تحت شعار التلبيس القائل: “الأمة لا تتقدم إذا كانت ماضوية الفكر، رجعية التفكير”!! لكن هذا التلبيس والتلاعب مكشوف لأهل البصيرة، ذلك أن كلامهم هذا خبء، ظاهره فيه الرحمة، وباطنه من قبله العذاب!! فالقوم لا يريدون بهذه الماضوية وتلك الرجعية ما هو متصل بأمور الدنيا، والتطور والتحديث -فيما لا يخالف الدين ويصادمه- وإنما الماضوية المدعاة، والرجعية المزعومة موصولة –عندهم- بالدين، وفهم السلف الصالحين لكتاب رب العالمين وسنة النبي الأمين عليه الصلاة والسلام، ولذا ركز القوم جهودهم على مخالفة الأئمة الأعلام السابقين، وأعطوا لأنفسهم حق الاجتهاد تفسيرا ونظرا.. وقالوا: إن السابقين رجال ونحن رجال..، هكذا بتمرد صفيق، وخبث في النفس عميق، حتى أنه ينذر أن تعرف أحدهم دون أن تحس منه بشعور من يظن أنه مجدد، وأنه لم يسبق إلى فكره..!!
هكذا تشابهت القلوب، وهكذا كان أهل الاعتزال قديما يطعنون في السلف الصالح ولا يقبلون علمهم.
يقول البغدادي رحمه الله: (ثم إن النظام -مع ضلالاته التي حكيناها عنه- طعن في خيار الصحابة والتابعين من أجل فتاويهم، فذكر الجاحظ في كتاب المعارف، وفي كتابه المعروف بالفتيا، أنه عاب على أصحاب الحديث روايتهم أحاديث أبي هريرة، وزعم أن أبا هريرة كان أكَذب الناس، وطعن في الفاروق عمر، وعاب عثمان، وابن مسعود، حاشاهم جميعاً) الفرق بين الفرق 147- 150.
فالعجب كل العجب من حال “البغاة” الذي استنسر مع أنه لا يحسن في أمر الدين والشريعة إلا سبك العبارات، وتزويق الكلام، وتجميع الحروف مع أنه لا يستساغ مضغ ذلك -منه- ولا تذوقه، فضلا على أن ترى فهما للأصول، وضبطا للضوابط الشرعية والعقلية معا!! بله أن تبصر الإدراك لمعاني اللغة العربية، والمعرفة لدقائق علوم الآلة..
فكيف يحكم من هذا حاله على علم وفهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين.. الذين بلغوا في العلم قدرا، وفي الفهم الصحيح مبلغا؟!
فالعلم الصحيح شيئان إما نقل مصدق، وإما بحث محقق، وما سوى ذلك فهذيان مزوق، وعموم كلام معتزلة اليوم هو من هذا القسم من الهذيان، وما وجد في كلام بعضهم من نقل فهو مع الجهل بثابته وضعيفه، وصحيحه وفاسده، وإذا كان ثابتا صحيحا فإنه ينقل على غير وجهه، ويوضع في غير موضعه، وأما مجال الاستنباط والاستدلال على المطلوب ففيه الغرائب والعجائب..!!
إن مرجعية فهم السلف الصالح للدين: مرجعية أساس كما نص القرآن الكريم على ذلك في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
وتأمل الحكمة العظيمة في هذه الآية حيث أنه سبحانه لم يقل: فإن آمنوا بمثل ما آمنتَ به.. وإنما كان بصيغة الجمع “آمَنتُم” وذلك تنصيص على اعتبار فهمهم، وجعل القيمة الكبرى له ولهم، فهم الذين شهدوا الوحي، وعايشوا التنزيل، ولم تلتو لغة القرآن على عقولهم، ولم تصبهم عجمة البيان واللسان، ولا عجمة القلب والجنان.
وحتى لا يصطاد أحد في الماء العكر نقول أن أصالة فهمهم رضي الله عنهم، واعتبار مرجعية الفهم للكتاب والسنة لهم، لا تمنعنا من الانتفاع بمستجدات العصر الحديث وتطوراته الدنيوية في شتى المجالات، بل هي حاثة عليه، ضابطة له، محكمة أصوله وفروعه..
هذه هي حقيقة الدعوة السلفية، وهذا هو الصواب في إدراك معناها ومرماها: “ضبط الأفهام في أمر الدين بفهم السلف الصالح الصالحين”، بخلاف ما يدعيه كثير من الناس عن هذه الدعوة المباركة غفلة أوتغافلا وتلبيسا وكيدا..
قال الشيخ محمد إبراهيم بن أحمد الكتاني الذي بلغ منصب الأستاذية في جامعات فاس والرباط في كتابه “سلفية الإمام مالك” متحدثا عن سلوك الصحابة رضي الله عنهم وفهمهم: “هؤلاء الأصحاب في سلوكهم الجماعي، وفي فهمهم الجماعي لما تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هم الذين يمثلون الإسلام أصدق تمثيل، وبذلك يدخل هذا السلوك الجماعي، وهذا الفهم الجماعي، في نطاق المقدسات الدينية التي يجب الاعتماد عليها في فهم الوحي الإلهي”، ملحق بكتاب “الإمام مالك” لمحمد المنتصر بالله الكتاني ص: 145.