قال الشيخ عبد الله كنون رحمه الله تعالى في كتابه مفاهيم إسلامية 48-49: “لا تزيدنا حوادث الأيام إلا إيمانا بالأصول التي قام عليها الدين الحنيف، ولا تتقدم المدنِيَّة الحديثة خطوة إلى الأمام إلا ونجدها متأثرة لخطى الإسلام في النظام العام الذي وضعه لسياسة البشر، سواء في السلم والحرب، والداخل والخارج، والإدارة والحكم، وتدبير المنزل، والحياة الاجتماعية على الإطلاق. ولذلك كان من رأينا -دائما- أن المدنية الإسلامية يجب أن تكون هي المقياس لصلاحية ما يعرض من النظم والقوانين السياسية والاجتماعية، فما وافقها من ذلك كان صالحا ومقبولا، وما خالفها يجب رفضه لأنه لا خير فيه. والمقصود الموافقة في الجوهر والمادة لا في العرض والشكل، لأن الشكليات تختلف، ولا اعتبار بها أمام المادة التي لا تبديل لها ولا تغيير، وقد أشعر بهذا الحكم قوله تعالى: “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ”، فإذا كانت مدنية أوربا قائمة على أصول المسيحية المستمدة من التوراة والإنجيل، فإن مدنية الإسلام مستمدة من القرآن ومهيمنة مثله على مدنية أوربا.
وكم يخطئ هؤلاء الذين يعكسون القضية، فيجعلون هذه المدنية الغربية مقياسا لكل تقدم في الفكر والحياة الاجتماعية ونظام الحكم والسياسة العامة، ويقارنون بينها وبين معالم الحضارة الشرقية، وخاصة الإسلامية، فما وافقها كانوا به من الفرحين، وما خالفها التمسوا له المخارج والعلل، وربما أوَّلوا النصوص الصريحة، وحرفوا الكلم عن مواضعه، كما فعل اليهود قلبهم ليصير أقرب إلى مواضعات الغربيين، وأوفق لمدنيتهم التي بهرت العقول.
واعتبِر ذلك إذا شئت في مسألة الطلاق فقط، فكم حاول بعض الكتاب في مطلع هذا القرن أن يمحوا (عاره) عن الإسلام وكادوا يدعون أنه تشريع شاذ لا يعمل به إلا في الضرورة القصوى، ولا يقع إلا من جهة المسلمين الذين لا أخلاق لهم، كل ذلك ليترضوا المتجنين على هذا الدين الحنيف، والمعيرين له بهذا التشريع الذي خلت منه المسيحية والمدنية الغربية بالتالي. فما مرت مدَّة قليلة من الزمن حتى أصبح الطلاق في التشريع الأوربي والأمريكي ركنا أساسيا وحكما معترفا به في نظام الحياة الزوجية، وأفرط القوم فيه، فصار في بعض كبار العواصم تسجل حوادثه بالدقائق والثواني.
وقل مثل ذلك في مسألة تعدد الزوجات، وقد كان نظاما شائعا قبل الإسلام، فأقر الإسلام منه ما أقر وأنكر ما أنكر، درء لحياة الفسق والفجور التي تطغى مع عدمه، وتقريرا لحق الزوجية التي تظل كثير من النساء محرومين منها في ظل نظام الزواج الفردي، مع العلم بأن عدد النساء أكثر من عدد الرجال، وخصوصا في الشعوب المحاربة، وحفظا لنسب الأولاد الذين يتزايدون منه وحقوقهم، فإنهم إذا ولدوا من نكاح غير شرعي لم يكن لهم نسب، ولم يعترف لهم بحق، وكل هذه العوائد وغيرها من الأسرار والحكم، كان المبهورون بالمدنية الغربية يعمون عنها وينصرفون إلى إنكار هذا التشريع، وربما قالوا بأن الإسلام يحرمه ضمنا للآيتين الكريمتين اللتين تقول إحداهما: “فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً” وتقول الأخرى: “وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ” وها نحن الآن نرى في المجتمع الأوربي والأمريكي أمر تعدد الزوجات يكاد يكون مسلما به من الجميع، وإن لم يعترف به قانونا، فلا رئيس ولا مرؤوس إلا وهو ذو حريم، إنما هذا الحريم ليس له حرمة اجتماعية، ولا حقوق مثل ما كان للحريم الإسلامي المحفوظ الكرامة المرعي الحقوق. وكم ترتفع الأصوات حينا بعد حين باستنكار هذه الحالة المرثية التي يعيش فيها هؤلاء الضحايا، والمطالبة بإيجاد تشريع يحفظ لهن كرامتهن، ويحقق لهن أمنيتهن في الحياة، وليس هو إلا الاعتراف بنظام تعدد الزوجات الذي لا بد أنه سيوجد عما قريب، وحينئذ يخجل هؤلاء المقلدة الذين غرتهم المظاهر الخلابة، فجعلوا من أنفسهم دعاة للباطل، بينما أصحاب هذا الباطل يحاولون التخلص منه” اهـ.