لمَّا تخلَّى كَثيرٌ من المُسلمِين عن كَثيرٍ ممَّا جاءَ بهِ دينُهم أصابَهم من المصائب ما لاَ يخفَى على أحدٍ، فبَينما هي أمَّةٌ واحدةٌ عَزيزةُ الجانب مَنيعةُ الأَسوارِ إذْ تحوَّلَت وَحدتُها إلى فُرقةٍ وقوَّتُها إلى ضَعفٍ إلاَّ ما شاءَ الله، وقد قامَت دَعواتٌ إسلاميَّةٌ لإصلاَح الأوضاع وما فسد من الطباع، لكن اختلَفوا في ذلكَ بحسَب اختلاَفِهم في تَحقيقِ جُذور البليَّة، فمنهم من اهتم بمعالجة المرض، والأكثر اشتغل بما هو عرض.
وللتنبيه نقول :ليسَ الخلاَفُ هنا في الاعتِرافِ بفَسادِ الحالِ، ولاَ هو في ضَرورةِ السَّعي لإِصلاَحِه أو عدَم ذَلك؛ ولَكن الخلاَف في طَريقتِه، وأثرُ الاختلاَفِ في ذلكَ مَعلومٌ؛ لأنَّ الطَّريقةَ الإصلاَحيَّةَ إذَا جُهلَت أو أُغفلَت ظلَّ صاحبُها يُكابدُ التَّغييرَ من غَير بابِه، وكانَ كمَن يَقصدُ هدفًا من غَير طَريقِه، فمتَى يَصِل؟!
وكذلك بالنِّسبة للبَحث في أَصل الانحِراف؛ فإنَّ طَبيعةَ العلاج تَختلف باختلاَف التَّعرُّف على أصل الدَّاء، لذَا أَحببنا تَبيينَ أَساس داء المُسلمينَ؛ لأنَّ الاهتِداءَ إلى تَعيينِه يَعني الاهتِداءَ إلى أصل الدواء؛ فإنَّ التَّوصُّل إلى علاَج كلِّ داءٍ يَنطلِقُ من جُذورِه.
فقد صرَّحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأنَّ تسلُّطَ السُّلطانِ على النَّاس بظُلمِه مَبدؤُه تسلُّطُ ذُنوبِهم علَيهم أوَّلاً، فقالَ: «ولَمْ يَنْقُصُوا المِكْيَالَ والمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ المُؤنَةِ وجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ» أخرجَه ابنُ ماجَه (4019) وصحَّحه الألبانيُّ في تَعليقِه علَيه.
فهكذَا تَفعلُ الذُّنوبُ، ما حلَّت نُذرُها بساحةِ قومٍ إلاَّ ساءَ صَباحُ المُنذَرين، فانكشَفوا عمن يبيد خضراءَهم، ويجتَنح أَرزاقَهم، ويستبيح حُرماتِهم، ويفعل بهم من المُنكَرات على قَدْر مَا أَصابُوا من السَّيِّئاتِ، ويفوتهم من المَسرَّاتِ بحسَبِ ما فوَّتوا على أَنفسِهم من الطَّاعاتِ، والرَّبُّ حكَمٌ عَدلٌ، وبه المستعانُ.
ولمَّا كانَ هَذا هو الأَصل، فإنَّ اللهَ عز وجل جعَلَ إِصلاَحَ النَّفْس السَّبيلَ الوَحيدَ للإصلاح -هذا مع عمل ما يلزم عمله، وإعداد ما يجب إعداده- فقالَ: )إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ(، فلذَلكَ كانَ سيِّدُ المُصلحِين صلى الله عليه وسلم لاَ يَزيدُ في افتِتاح خُطبِه على التَّعوُّذ من شرِّ النَّفس، فيَقولُ: «..وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا»؛ فلِماذَا يُعرِض كَثيرٌ من الدُّعاةِ عن طاعةِ الله في هَذا واتِّباع رَسولِه صلى الله عليه وسلم؟!
ولابن القيِّم كلاَمٌ بَليغٌ في هَذا لم أَرَ أَبلغَ مِنه عندَ أَهل العِلم، قالَ رحمه الله في مفتاح دار السَّعادة (1/253):
«وتَأمَّلْ حِكمتَه تَعالى في أن جعَلَ مُلوكَ العِبادِ وأُمراءَهم ووُلاَتَهم مِن جِنس أَعمالِهم، بل كأنَّ أَعمالَهم ظهرَت في صُوَر وُلاَتهم ومُلوكِهم، فإن استَقامُوا استَقامَت مُلوكُهم، وإن عدَلوا عدَلَت علَيهم، وإن جارُوا جارَت مُلوكُهم ووُلاَتُهم، وإن ظهَرَ فيهم المَكرُ والخَديعةُ فوُلاَتُهم كذَلكَ، وإن مَنَعوا حُقوقَ الله لدَيهم وبَخِلوا بها مَنعَت مُلوكُهم ووُلاَتُهم مَا لهم عندَهم مِن الحقِّ وبَخِلوا بها علَيهم، وإن أَخَذوا ممَّن يَستَضعِفونه مَا لاَ يَستَحقُّونه في مُعاملتِهم أَخذَت مِنهم المُلوكُ مَا لاَ يَستَحقُّونه وضَرَبَت علَيهم المُكوسَ والوَظائفَ، وكلُّ مَا يَستَخرِجونَه من الضَّعيفِ يَستَخرِجُه الملوكُ مِنهم بالقوَّةِ، فعمَّالُهم ظهَرَت في صُوَر أَعمالِهم، وليسَ في الحِكمةِ الإلهيَّةِ أن يُوَلَّى على الأَشرارِ الفجَّار إلاَّ مَن يَكونُ مِن جِنسِهم، ولمَّا كانَ الصَّدرُ الأوَّلُ خِيارَ القُرونِ وأبرَّها كانَت ولاَتُهم كذَلكَ، فلمَّا شابُوا شابَت لهم الولاَةُ، فحِكمةُ الله تَأبَى أن يُوَلَّي علَينا في مِثل هَذهِ الأَزمانِ مِثلُ مُعاويةَ وعُمرَ بنِ عَبدِ العَزيز فَضلاً عن مِثل أبي بَكرٍ وعُمرَ، بَل ولاَتُنا على قَدْرنا، ووُلاَةُ مَن قَبلَنا على قَدرِهم، وكلٌّ مِن الأَمرَين مُوجبُ الحِكمةِ ومُقتَضاها، ومَن له فِطنةٌ إذَا سافَرَ بفِكرِه في هَذا البابِ رأَى الحِكمةَ الإِلهيَّةَ سائرَةً في القَضاءِ والقَدَر ظَاهرةً وبَاطنةً فيهِ، كما في الخَلقِ والأَمرِ سَواء، فإيَّاكَ أن تظنَّ بظنِّك الفاسدِ أنَّ شَيئًا مِن أَقضيتِه وأَقدارِه عارٍ عن الحِكمةِ البَالغةِ، بل جَميعُ أَقضيَتِه تَعالى وأَقدارِه وَاقعةٌ على أتمِّ وُجوهِ الحِكمةِ والصَّوابِ، ولَكنَّ العُقولَ الضَّعيفةَ مَحجوبةٌ بضَعفِها عن إِدراكِها كما أنَّ الأَبصارَ الخَفاشيَّةَ مَحجوبةٌ بضَعفِها عن ضَوءِ الشَّمس، وهَذهِ العُقولُ الضِّعافُ إذَا صادَفَها الباطِلُ جالَتْ فيه وصالَتْ ونطقَتْ وقالَتْ، كما أنَّ الخُفَّاش إذَا صادَفَه ظلاَمُ اللَّيل طارَ وسارَ.
خَفافِيشُ أَعْشاهَا النَّهارُ بضَوئِهِ — ولاَزَمَها قِطَعٌ مِنَ اللَّيْل مُظْلِم».