“…و ليحذر العبد مسالك أهل الظلم والجهل الذين يرون أنهم يسلكون مسالك العلماء، تسمع من أحدهم جعجعة ولا ترى طحنا، فترى أحدهم أنه في أعلى درجات العلم وهو إنما يعلم ظاهرا من الحياة الدنيا، ولم يحم حول العلم الموروث عن سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وقد تعدى على الأعراض والأموال بكثرة القيل والقال، فأحدهم ظالم جاهل لم يسلك في كلامه مسلك أصاغر العلماء، بل يتكلم بما هو من جنس كلام العامة الضلال والقصاص والجهال، ليس في كلام أحدهم تصوير للصواب ولا تحرير للجواب كأهل العلم أولي الألباب، ولا عنده خوض العلماء أهل الاستدلال والاجتهاد، ولا يحسن التقليد الذي يعرفه متوسطة الفقهاء، لعدم معرفته بأقوال الأئمة ومآخذهم، والكلام في الأحكام الشرعية لا يقبل من الباطل والتدليس ما ينفق على أهل الضلال والبدع الذين لم يأخذوا علومهم من أنوار النبوة، وإنما يتكلمون بحسب آرائهم وأهوائهم فيتكلمون بالكذب والتحريف، فيدخلون في دين الإسلام ما ليس منه وإن كانوا لضلالهم يظنون أنه منه، وهيهات هيهات فإن هذا الدين محفوظ بحفظ الله له، ولما كانت ألفاظ القرآن محفوظة منقولة بالتواتر لم يطمع أحد من إبطال شيء منه ولا في زيادة شيء فيه بخلاف الكتب قبله قال تعالى:”إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ”، بخلاف كثير من الحديث طمع الشيطان في تحريف كثير منه وتغيير ألفاظه بالزيادة والنقصان والكذب في متونه وإسناده، فأقام الله له من يحفظه ويحميه وينفي عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فبينوا ما أدخل أهل الكذب فيه وأهل التحريف في معانيه كما قال صلى الله عليه وسلم: “لا يزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة” وقال صلى الله عليه وسلم: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين”.
وقد وقع في هذا الباب كثير من الفقهاء والفقراء والعامة ونحوهم ممن فيه زهد ودين وصلاح ولكن كل من لم يكن علمه وعمله يرجع إلى العلم الموروث عن الرسول مقيدا بالشريعة النبوية، لم يخلص من الأهواء والبدع، بل كله أهواء وبدع، وقد قال عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب:” اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة فانظروا أعمالكم إن كانت اقتصادا أو اجتهادا أن تكون على منهاج الأنبياء وسنتهم”.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد” وفي رواية:” من عمل عملا ليس على أمرنا فهو رد” وقد اتفق المسلمون على أنه ليس لأحد أن يعبد الله بما سنح له وأحبه ورآه، بل لا يعبده إلا بالعبادة الشرعية، وقد قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى:” لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ” قال: “أخلصه وأصوبه قيل ما أخلصه وأصوبه قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة”.
وقال أبو بكر بن عياش: “لما قيل له إن بالمسجد أقواما يجلسون ويجلس إليهم الناس فقال من جلس للناس جلس إليه ولكن أهل السنة يموتون ويبقى ذكرهم لأنهم أحيوا بعض ما جاء به الرسول فكان لهم نصيب من قوله تعالى: “وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ”، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم لأنهم شانوا بعض ما جاء به الرسول فبترهم الله فكان لهم نصيب من قوله تعالى: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)” ولهذا كانت أصول الإسلام كما قال الإمام أحمد وغيره تدور على ثلاثة أحاديث قوله:”الحلال بين والحرام بين”، وقوله: “إنما الأعمال بالنيات”، وقوله: “من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد”، وذلك أن الدين فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، والنهي عنه ذكره في حديث “الحرام بين” وذكر حكم ما يشتبه به وما لا يشتبه به”
الرد على البكري لابن تيمية رحمه الله 1/170 فما بعدها.