(فإن “الثقافة”، فاعلم، تكاد تكون سرّا من الأسرار الملثّمة في كل أمّة من الأمم وفي كل جيل من البشر، وهي في أصلها الراسخ البعيد الغَوْر، معارف كثيرة لا تحصى، متنوّعة أبلغ التنوّع لا يكاد يحاط بها، مطلوبة في كلّ مجتمع إنسانيّ للإيمان بها أوّلا عن طريق العقل والقلب= ثمّ للعمل بها حتى تذوب في بنيان الإنسان وتجري منه مجرى الدم لا يكاد يحسّ به، ثمّ الانتماء إليها بعقله وقلبه وخياله انتماء يحفظه ويحفظها من التفكك والانهيار، وتحوطه ويحوطها حتى لا يفضي إلى مفاوز الضياع والهلاك.
وبين تمام الإدراك الواضح لأسرار “الثقافة” وقصور هذا الإدراك، منازل تلتبس فيها الأمور وتختلط، ومسالك تضلّ فيها العقول والأوهام حتى ترتكس في حمأة الحيرة، بقدر بعدها عن لباب هذه “الثقافة” وحقائقها العميقة البعيدة المتشعّبة.
وهذا أيضا باب واسع جدّا يحتاج إلى تفصيل لا يحاط به في مثل هذا الموضع. وكن أبدا على حذر، فإنّه ممكن كلّ الإمكان أن يدبّ إليك منه دبيبا خفيّا، مكْر الماكر، وعبَث العابث، واحتيالَ المحتال، حتى (تحسب الشحم فيمن شحمه ورم)، كما يقول المتنبي.
..و(ثقافة) كل أمّة وكل (لغة) هي حصيلة أبنائها المثقفين بقدر مشترك من أصول وفروع، كلها مغموس في (الدين) المتلقّى عند النشء. وهو لذلك صاحب السلطان المطلق الخفيّ على اللغة وعلى النفس وعلى العقل جميعا، سلطان لا ينكره إلا من لا يبالي بالتفكر في المنابع الأول التي تجعل الإنسان ناطقا وعاقلا ومبينا عن نفسه ومستبينا عن غيره.
..” فباطل كل البطلان أن يكون في هذه الدنيا على ما هي عليه، (ثقافة) يمكن أن تكون (ثقافة عالمية)، أي ثقافة واحدة يشترك فيها البشر جميعا ويمتزجون على اختلاف لغتهم ومللهم ونحلهم وأجناسهم وأوطانهم.
فهذا تدليس كبير، وإنما يراد بشيوع هذه المقولة بين الناس والأمم، هدف آخر يتعلّق برفض سيطرة أمّة غالبة على أمم مغلوبة، لتبقى تبعا لها.
فالثقافات متعددة بتعدد الملل، ومتميزة بتميّز الملل، ولكل ثقافة أسلوب في التفكير والنظر والاستدلال منتزع من (الدين) الذي تدين به لا محالة.
فالثقافات المتباينة تتحاور وتتناظر وتتناقش، ولكن لا تتداخل تداخلا يفضي إلى الامتزاج البتّة، ولا يأخذ بعضها عن بعض شيئا، إلا بعد عرضه على أسلوبها في التفكير والنظر والاستدلال، فإن استجاب للأسلوب أخذته وعدّلته وخلّصته من الشوائب، وإن استعصى نبذته وأطرحته.
وهذا باب واسع جدا ليس هذا مكان بيانه، ولكني لا أفارقه حتى أنبّهك لشيء مهم جدّا، هو أن تفصل فصلا حاسما بين ما يسمّى (ثقافة) وبين ما يسمّى اليوم (علما)، (أعني العلوم البحتة)، لأنّ لكل منهما طبيعة مباينة للآخر، فالثقافة مقصورة على أمّة واحدة تدين بدين واحد، والعلم مشاع بين خلق الله جميعا، يشتركون فيه اشتراك واحدا مهما اختلفت الملل والعقائد” اهـ. (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا)؛ للعلامة محمود محمد شاكر رحمه الله تعالى رحمة واسعة.