التوحيد وتحرير العقل

إن نظرة عابرة في عقائد الأمم وأخلاقها تجعلنا ندرك حجم المأساة التي عاشها العقل ويعيشها على مدار التاريخ؛ إذ ما من أمة من الأمم إلا وقد ضربت لها بسهم في إذلال العقل وامتهانه، والكفر به وإغفاله، حتى بلغت بعض الأمم من عداوة العقل وتعطيله أعلى منازل السفه، وأوغلت في الجهل والترهيب من الفكر بحيث صارت نسبتها إلى العقل ضرباً من العبث.

بعض تلك الأمم عَبَدَ حجراً، وبعضهم عبد بشراً، وبعضهم عبد بقراً، وبعضهم عبد ناراً، وبعضهم عبد كوكباً، وبعضهم عبد مولوداً، وبعضهم عبد فقيراً ضعيفاً، بل وصل بعضهم إلى إنكار الإله أصلاً يموتون ويحيون ولا يهلكهم إلا الدهر. وأمثال هؤلاء لا تجوز نسبتهم لعقل ينفعهم ويتسبب في نجاتهم. قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِـجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْـجِنِّ وَالإنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف).
لقد قامت كل تلك الملل سالفة الذكر على الإغلاق، والمصادرة لحق العقل في التفكير، ومع الأسف يدين بها ملايين البشر حتى اليوم، ويُغلَق دونهم باب المعرفة والفهم لما يدينون به حتى إنهم لا يستطيعون تحرير معتقداتهم فضلاً عن تفهمها، “فلو سألت الرجل وامرأته وابنته وأمه وأباه عن دينهم لأجابك كل منهم بغير جواب الآخر، ولو اجتمع عشرة منهم يتذاكرون الدين لتفرقوا عن أحد عشر مذهباً”.
ورغم ما يزعمه بعضهم من أننا نحيا عصر العقل والفكر والتقدم والتحرر، إلا أنهم يعيشون تحت احتلال تلك النحل، وإن كان بعضهم بادر إلى رفض سلوك تلك المذاهب المشينة تجاه العقل، وجاءت صور متعددة لمناهضة هذا التعسف في رفض العقل والتحكم في التعامل مع الناس بين قوانين الحرمان وصكوك الغفران، وكان من تلك الصور الثورة الغربية على الكنيسة وعلى الكهنوتية التي قضت بتقليص دور الكهنة والرهبان، ومنع احتكارهم للكتب المقدسة لديهم فأعيد طبعها وتعميمها، ثم كان من صور تلك المناهضة بروز الكتب والأبحاث التي نقضت تعاليم تلك الكتب وشككت في أصولها بعدما أثبتت تناقضها.
ومع كل هذا التحول الفكري والتحرر العقلي ظلوا يعدّون أنفسهم من أبناء تلك الملل الباطلة، وقد يتعصبون لها ويقيمون الحروب من أجلها، ولم يعالج أكثرهم الأمر معالجة صحيحة بالدخول في الدين الحق، بل هربوا إلى العَلْمانية التي تعلِّم النفاق؛ فالمرء يتدين في دور العبادة لإله ثم يخلعه على عتباتها لينتقل إلى غيره.
وبينما يعجب المرء من هؤلاء، ويتساءل عن أسباب ذلك التعلق بتلك المذاهب الباطلة؛ يفاجَأ بأنها هي أسباب مكذبي الأنبياء نفسها الذين كانوا يركبون النوق والحمير، ويسيرون حفاة يقطعون الصحاري سيراً على الأقدام، والذين كانوا يتحججون فيها بميراث الآباء والأجداد، والخوف من ضياع السؤدد، والترفع عن مخالطة الأراذل الضعفاء، وهو ما يعني أنهم لم يواكبوا تقدم الآلات العصرية التي صنعوها بأيديهم والتي يعد تطورها شيئاً مذهلاً، ولكنه الضلال المبين.
وبكل ثقة يمكننا القول: إنه لم يلقَ العقل تقديره واحترامه ووقاره اللائق به منذ بدء الخلق قط، إلا في دعوة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وفي دعوة أتباعهم رضوان الله تعالى عليهم، قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء) وهذا من كرمه عليهم وإحسانه، حيث كرم بني آدم بجميع وجوه الإكرام، فكرمهم بالعلم والعقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب، وجعل منهم الأولياء والأصفياء وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة.
فمن يوم خلق الله آدم عليه السلام لم يتركه الله هكذا حتى أقامه على العلم. قال سبحانه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا…} (البقرة)، فعلى ضوء الخلق والعلم عاش آدم عليه السلام وزوجه وذريته على منهج العبودية لله وتوحيده جل وعلا حتى جاء الشرك بعد أن ولج الناس أبواب البدع، وعاد دور الرسل من جديد، ليبينوا للناس دينهم ويأمروهم بالتوحيد، ويثبتوا لهم أن العقل الصحيح يسفِّه ما وقعوا فيه من الكفر والشرك، ويثبت أن الحق في لزوم سبيل التوحيد، فحرروا العقل من أسر الكفر والشرك والإلحاد، وخلصوه من تهمة السكوت على عبادة الأوثان، ومنافقة الساجدين للحجر والشجر والبقر والصلبان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *