تميز المسلم

للمسلم نمطُ حياةٍ خاصٌّ به، يصدر عن انتماء عقدي وحضاري متميِّز، تتجلَّى فيه ملامح أخلاقية وسلوكية وجمالية قد لا يفهمها المنتمون لشرائع وحضارات أخرى، وقد يعيِّرونه بها، لكنَّه يبقى متمسِّكًا بها باعتبارها جزءًا من شخصيَّته، وإنَّما يبدأ الاستلاب الحضاري والانهزام الروحي حين يفقد المسلم تميُّزه ويستهِين بعبادات وسلوكيات، ويتنازَل عنها ليتبنَّى أنماطًا وافدةً يظنُّ أن تبنِّيها يُخرِجه من وضعٍ أدنى ويرفعه إلى مصافِّ الرُّقِيِّ والتمدُّن، وبهذه العقليَّة الاستسلاميَّة المبثوثة في النفوس استطاع الغرب أن يغزو المسلمين في بيوتهم وحياتهم الخاصة والعامَّة.
أجل، غَزانَا الغرب بنمط الحياة وطريقة العيش، فضلاً عن أسلوب التَّفكير وخصائص الإنتاج والاستهلاك؛ ففَقَدنا ذاتيَّتنا، وأصبحنا -من حيث لا ندري- أسرى لمراكز توجيهه في هذه المجالات، تتحكَّم في أفكارنا ومشاعرنا، وسلوكنا وأذواقنا، واتّجاهاتنا كلِّها، وقد بدأت العمليَّة بالنخبة المتغرِّبة، ثم سَرَتْ إلى عموم الطبقات والأعمار، لنصير في النهاية مسخًا من الخلق، ومجتمعاتٍ مشوَّهةً لا شرقيَّة ولا غربيَّة.
إن من الإصلاح الاجتماعي القضاءَ على الرُّوح الأجنبية في البيوت، وإماتة التقاليد غير الإسلامية في كلِّ مظاهر الحياة، وإحياء السلوكيات الإسلامية؛ مع العلم أنه لا نعني بهذا أن ننعزل عن العالم، أو نقطع صلتنا بمحيطنا الكبير، أو نتنكَّر للقواسم المشترَكة بين البشر؛ إنما نريد الاحتفاظ بما يُملِيه علينا سلوكنا الديني والأخلاقي من تميُّز إيجابي يكون في حدِّ ذاته قدوة لغيرنا، هذا التميُّز حماية للشخصية من التبعيَّة غير الواعية، والانبهار المفرِط بما عليه المتغلِّب من الحضارة؛ حتى لا نتبع غيرنا دون وعي شبرًا بشبر وذراعًا بذراع؛ فننتهي كما انتهوا إلى مستنقعات آسِنَة ودرَكات هابِطة؛ كالزواج المثليِّ، و”تجريم” الحياء والاحتشام، وازدراء الأخلاق والأسرة، والطهر والفضيلة، وإزاحة الدين من الحياة، وقد انتهى الغرب إلى ما هو عليه بالانسلاخ التدريجي من شخصيَّته، وهو ما نخشاه على أنفسنا.
نعم بتميُّزنا لا نعادي أيَّ موروث أخلاقي أو ثقافي أو حضاري نافِع وبَنَّاء لا يخالف دين رب الأرض والسماء، ولا نُسقِط أيَّ وسيلة نظيفة أو أسلوب مبتكر ذي جدوى، بل نحتَضِن كلَّ ذلك ونُسهِم في تنميته ونشره، على ألاَّ يحمل في طيَّاته معولاً خفيًّا يهدم شيئًا من شخصيَّتنا؛ ذلك أن الغرب المتغلِّب يحمل وسائله المصدَّرة إلينا -حتى من المنتجات المادية والتقنيات المختلفة- رسائل مشفَّرة وأمراضًا مبطنة تعمل على إماتَة خلايا نسيجنا الفكري والعاطفي لننصهر في الصبغة الغربية اللادينية؛ لأن أكثر ما يُثير خصومَنا هو الصبغة الربانية التي تصطبغ بها حياتنا.
فتميُّزنا؛ تميُّز بالربانية والتزام الأخلاق في جميع أنشطة الإنسان والمجتمع، والسعي إلى التفوُّق المادي مع السموِّ الروحي، وربط الدنيا بالآخِرة، ليست الرفاهية المادية مثلَنا الأعلى، ولا ينحصر الجمال عندنا في مفاتن المرأة ولا في النحت؛ لأننا نملك البديل الوافي، نعم، هو الآن على شكل مادة خام تحتاج إلى أصحاب خبرة مهَرَة يصنعون منه أنواع الجواهر الثمينة التي تهوي إليها الأفئدة فيتضاءَل أمر الجهالة عندنا، لكنه على كلِّ حال بديل موجود؛ أي: إنه في حاجة إلى تفعيل، لا إلى إيجاد وابتكار.
لسنا كالعائل المستكبِر، إنما نحن دعاةُ تميُّزٍ حضاري مستمسِك بالأصالة والمعاصرة وفق معاييرنا الذاتية، التي لا تترادَف حتمًا مع معايير الغرب، التي يعمل على فرضها باعتبارها مقاييس علمية ومواصفات عالمية.
تميُّزنا كلُّه ثقة بالنفس بلا غرور، وإبداع نافع وعمل للدنيا والآخرة، ورفض للعدوان المادي والمعنوي، وحصانة ضد الذوبان والتحلُّل.
فالإنسانُ المؤمن رؤيتُه للتميز أن دينه متميز، فهو يمثل دينًا حضاريًّا رائعًا، ختم الله به الرسالات، فكان أكملَ الشرائع، وأوسطَها، وأصلَحها لعمارة الأرض، فإذا هو مع الناس صاحبُ أخلاقٍ عالية، يتمثل فيها بنبيِّ الهُدى، ورسول الرحمة عليه الصلاة والسلام، يتعامل معه الناس فينبهرون بحِلمه وتواضُعِه، وأدبِه وذوقه، وحلو حديثه وطلاقة وجهه، وصدقِه وعفوه وأمانته، وعلمه وثقافته وهكذا دواليك.
فإذا اختُبر في الملمَّات، تميَّز عن الآخرين بثباته، وصلابتِه في الحق، وابتغائه المثوبةَ من الله، وإذا بحثنا عن فائدته ونفعه للمجتمع، وجدناه متميزًا ببذله وعطائه دون انتظار المقابل، وجدناه يُصلِح ولا يُفسِد، يحمل همًّا لإصلاح الكون وتعميره بما يُرضي الخالقَ، ومهما يكن دَورُه في هذا الإصلاح، وعمله الذي يقتات منه، فهو متميز فيه بإتقانه، وبذل غاية الجهد فيه، وابتغاء وجه الله في كل ما يعرض له.
فالمؤمن متميز أولاً لأنه مؤمن، ومتميز لأنه صاحبُ هدفٍ سامٍ، وغاية نبيلة؛ لأنه يشعر بالآخرين، ويعمل من أجلهم، متميز لأنه صاحب همَّةٍ عالية، يسعى لبذل نفسه من أجل رسالة الخير التي يحملها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *