حاجتنا إلى دعوة المرسلين

هل صحيح أنَّ البشرية بلغت -اليوم- مبلغاً يجعلها تستغني عن تعاليم الرسل؟
وهل أصبحت البشرية اليوم قادرة على أن تقود نفسها بعيداً عن منهج الرسل؟
يكفي في الإجابة عن هذين السؤالين أن ننظر في حال تلك الدول التي نسميها متقدمة متحضرة لنعلم مدى الشقاء الذي يغشاهم، نحن لا ننكر أنَّهم بلغوا في التقدّم المادي شأواً بعيداً، ولكنّهم في الجانب الآخر الذي جاء الرسل وجاءت تعاليمهم لإصلاحه انحدروا انحداراً بعيداً.
لا ينكر أحد أنَّ الهموم والأوجاع والعقد النفسية سمة العالم المتحضر، الإنسان هناك فقد إنسانيته، خسر نفسه، ولذلك فإن الشباب يتمردون على القيم والأخلاق، والأوضاع والقوانين، أخذوا يرفضون حياتهم التي يعيشونها، وأخذوا يتبعون كل ناعق يلوِّح لهم بفلسفة أو دروشة أو سفسطة يظنون فيه هناءهم، لقد تحوّل عالم الغرب إلى عالم تنخر الجريمة عظامه، وتقوده الانحرافات والضياع، لقد زلزلت الفضائح أركان الدول الكبرى، والخافي أعظم وأكثر من البادي، إن الذين يسمّون -اليوم- بالعالم المتحضر يخربون بيوتهم بأيديهم، حضارتهم تقتلهم، حضارتهم تفرز سموماً تسري فيهم فتقتل الأفراد، وتفرق المجتمعات، الذين نسميهم اليوم بالعالم المتحضر كالطائر الجبّار الذي يريد أن يحلق في أجواء الفضاء بجناح واحد.
إننا بحاجة إلى الرسل وتعاليمهم لصلاح قلوبنا، وإنارة نفوسنا، وهداية عقولنا.. نحن بحاجة إلى الرسل كي نعرف وجهتنا في الحياة، وعلاقتنا بالحياة وخالق الحياة.
نحن بحاجة إلى الرسل كيلا ننحرف أو نزيغ فنقع في المستنقع الآسن.
بين ابن القيم رحمه الله تعالى مدى الحاجة إلى الرسل فقال: “ومن هاهنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول، وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا، ولا في الآخرة إلاّ على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلاّ من جهتهم، ولا يُنال رضا الله ألبتة إلاّ على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلاّ هديهم وما جاؤوا به، فهم الميزان الراجح، الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأيّ ضرورة وحاجة فرضت فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير.
وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك، وصار كالحوت إذا فارق الماء، ووضع في المقلاة، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال، بل أعظم، ولكن لا يحسُّ بهذا إلاّ قلبٌّ حيٌّ. ما لجرح بميت إيلام.
وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيجب على كل من نصح نفسه، وأحبَّ نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه، والناس في هذا بين مستقلٍّ، ومستكثر، ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو فضل عظيم” (زاد المعاد في هدي خير العباد 1/69).
وممن جلى هذه المسألة وبينها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قال: “الرسالة ضرورية للعباد، لا بدَّ لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأيُّ صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟
والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة، ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة، وهو من الأموات، قال الله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} الأنعام، فهذا وصف المؤمن كان ميتاً في ظلمة الجهل، فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نوراً يمشي به في الناس، وأمّا الكافر فميت القلب في الظلمات” (كتب ورسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 19/94).
وبين رحمه الله تعالى: “أن الله سمّى رسالته روحاً، والروح إذا عدم فقدت الحياة، قال الله تعالى: “وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا” الشورى، فذكر هنا الأصلين، وهما : الروح، والنور، فالروح الحياة، والنور النور”. نفسه.
فكيف لجسد أن يعيش بغير روح، وكيف لأمة أن تقوم بغير وحي، فالتمسك بهذا النور وامتثاله في الحياة هو سبيل الغزة والتمكين، والأمن والأمان إلى يوم الدين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *