اعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا

تلتقي دعوة الرسل جميعا في كلمة سواء ومقصد أعلى وهو جمع أهلها على الهدى والحقّ ليَسعدوا في الدُّنيا ويستعِدُّوا لسعادة الأخرى، بهذا جاءت الرِّسالات المعروفة، وبهذا نزلت كتبها.
والقرآن -الذي هو المهيمن عليهاـ يخبرنا بأنّ كتابَ موسى إمام ورحمة، وأنّ الله أنزل التّوراة والإنجيل هدًى للنَّاس، وأنّهما جاءا بما جاء به القرآن من الدّعوة إلى عبادة إلهٍ واحدٍ هو الله جلّ وعلا، والرّجوع إليه وحده فيما يعلو كسب البشر، وفي بثّ التَّآخي بين النَّاس ومحبة بعضهم بعضًا، وفي الأمر بالخير والنَّهي عن الشَّرِّ، ويخبرنا من وصايا الله الجامعة لتلك الأمم على ألسنة رُسلها هي أن يقيموا الدِّين ولا يتفرَّقوا فيه، وأنَّ تلك الأمم لم تحفظ وصيَّة الله، فتفرَّقت في الدِّين شِيَعًا وجعلت السَّبيل الواحد سُبلاً واختلفت في الحقِّ من بعد ما جاءها من العلم والبيِّنات فقامت عليها الحجَّة وحقّت عليها كلمة الله وكان عاقبة أمرها خسرا .
ولم يأل نبيُّنا صلى الله عليه وسلم أمَّته نصحاً وإبلاغا في هذا الباب، كيف لا وقد أنزل عليه ربُّه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ فكان أخشى ما يخشاه على أمَّته أن يدبَّ فيها داء الأمم قبلها فتختلف كما اختلفت وتتفرَّق في الدين كما تفرَّقت.
وقد وقع ما كان يخشاه صلى الله عليه وسلم فتفرّقت أمّته في الدين ولعن بعضها بعضاً باسم الدين، وانتهكت الأعراض والحرمات باسم الدين، واتّبعت سنن من قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع ولم تنتفع بتلك العظات البالغة والنذر الصادعة من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حتّى حقّت عليه الكلمة وصارت إلى أسوأ حال من الخزي والنكال .
إنّ من أصول الإسلام العظيمة التي بني عليها هذا الدين أمره بالجماعة والائتلاف وذمّه للفرقة والاختلاف يقول تبارك وتعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح: “إنّ الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا، وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم”.
بل إنّ هذا الأصل من آكد الأصول في هذا الدين العظيم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وهذا الأصل العظيم، وهو الاعتصام بحبل الله جميعا وألاّ يتفرق هو من أعظم أصول الإسلام وممّا عظمت وصيّة الله تعالى به في كتابه، وممّا عظم ذمّه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، وممّا عظمت به وصيّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في مواطن عامة وخاصة” مجموع الفتاوي 22/259.
ولكن لعدم مراعاة هذا الأصل وضوابطه حصل ما حصل من فرقة للمسلمين وتدابرهم وتناحرهم، فوقع أكثر المسلمين في الفرقة التي نهوا عنها وحصل بينهم الاختلاف الذي أمروا باجتنابه، فتفرّقت صفوفهم وضعف اتّحادهم وصاروا شيعا وأحزابا، كلّ حزب بما لديهم فرحون، مع التنبه أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق المبين.
وهذا التفرق وإن كان ممّا قدّره الله عزّ وجل كونا ووقع كما قدّر -ولا بدّ- إلاّ أنّه سبحانه لم يأمر به شرعاً، فوحدة المسلمين واجتماعهم مطلب شرعيّ ومقصد عظيم من مقاصد الشريعة ولا يكون ذلك إلاّ بالرجوع إلى هذا الدين كلاًّ لا بعضا كما جاء صافيا سالما من كلّ ما يخلّ بالاتّباع ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.
فلا بدّ من تضافر الجهود بين علماء الإسلام وطلبة العلم وعموم المسلمين لإصلاح ذات البين إصلاحا حقيقيّا بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وما كان عليه السلف الصالح؛ لا تلفيقيّا كما نرى ونشاهد؛ فإنّ أنصاف الحلول تفسد أكثر مما تصلح، فإنّ أوّل الأمة شبيه بآخرها عزوفاً عن الفضائل وانغماسا في الرذائل فلم يزل بها هذا القرآن وبيان خير الأنام حتّى أخرج من رعاة الغنم رعاة أمم؛ وأخرج من خمول الأميّة أعلام العلم والحكمة، فإن زعم زاعم أنّ الزمان غير الزمان فقولوا: ولكنّ الإنسان هو الإنسان، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها كما قال إمامنا مالك رحمه الله ونور الله قبره.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *