حينما نتدبَّر كتاب الله عز وجل نجدُ كثيرًا من الآيات تتحدَّث عن القران بين الإصلاح وتبنِّي منهج الإصلاح في الأرض، ونجاة الفئة التي تبنَّت منهج الإصلاح من ناحية، والفئة الصالحة في خاصة أنفسهم، وتعرُّضهم لغضب الله، وربما لهلاكهم رغم صلاحهم من ناحية أخرى.
{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}.
{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}.
ففي الآية الأُولى، الفعل “شَقُوا” للمعلوم؛ أي: هم الذين اتَّبعوا طريق الشقاوة بملء إرادتهم، واندفعوا فيه بكل ملكاتهم وجوارحهم، فصار ذلك سلوكًا لديهم، وسمةً من سماتهم، بحيث لا ينفكون عن أفعال الشقاوة، فلقد ألفوا فعل المعاصي؛ حتى أشربوها في قلوبهم، ثم أصبحت سلوكًا، ثم خُلقًا، فأصبحت الشقاوة خُلقًا قد امتزج بهم، ففارقت قلوبهم حرارة الإيمان، فما عادوا إلا بالخسران، لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، فانتفت عنهم صفة الخيريَّة، وأصبحت منطلقاتهم فاسدةً، وموازينهم مختلةً، وفسدت طويتهم ونواياهم، وخلا توجههم من الفكر والعمل الإصلاحي، وهو ما ينذر بعقاب الله ذي العزة والجبروت؛ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.
وانتفاء صفة الخيرية والتوجه الإصلاحي من الأمم، ليستوجب عذاب الله، وإن كان أفرادها صالحين في خاصة أنفسهم.
ومجيء الفعل بصيغة الجماعة (شقوا) يشير بأن المعيار الذي تُقاس به الأمم هو الإصلاح، وتبنِّي منهجه، وليس الصلاح في ذوات أفرادها، والأمر الآخر الذي تُقاس به الأمم هو الخيرية؛ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}.
{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
فالخيريَّة والتوجه الإصلاحي مسؤولية الأمم بجميع أفرادها، وكافة طوائفها؛ فهي مسؤولية تضامنيَّة، وليست فرديَّة، حتى وإن كان أفراد هذه الأمم صالحين، فلا يعفيهم ذلك من المسؤولية.
“مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينةٍ..”، الحديث.
{وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ} [هود: 113].
فإذا لم تنهض الأمة بمهمة الإصلاح، عمَّهم عذاب الله عز وجل وينجو من الهلاك الطائفة التي قامت بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأعذرت إلى الله، ومنهم مؤمن آل فرعون، ومؤمن سورة “يس”، والرُّسل صلوات الله وسلامه عليهم ومن انتهج منهجهم، وأما الصنف الغابر الهالك، أمثال الذين ذكرهم الله عز وجل في قوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} (المائدة).
وأما الذين سعدوا، وردت بصيغة الجمع والمبني للمجهول، وهو يفيد بأن السعادة التي شملتهم كانت نتيجة للباعث النفسي الإيماني الذي استحال إلى حركة فاعلة إيجابيَّة، مع أنفسهم وأمتهم، فكان تيسير الهدى والصلاح لهم، ثم الإصلاح لأمتهم ومجتمعاتهم، ولعلَّ الله اطلع على صلاح قلوبهم وتوجههم الإصلاحي الخالص لوجه الله تعالى فاصطفاهم لهذه المهمة الإصلاحية، ويسَّر لهم الهدى، واصطفاهم؛ ليكونوا من أهل السعادة: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}.
فالإيمان بالله ثم تقوى الله عز وجل والخيريَّة، والنهوض بمهمة الإصلاح عنوان لصلاح الأمم وازدهارها؛ {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
فبقدر صلاح المنطلق، وإصلاح المجتمع، وصدق التوجه لله عز وجل ووضوح الرؤيا، وتكشف الأهداف والغايات يكون الربح والفوز المبين، وأيُّ ربح وأي فوز؟! إنها الجنة.. إنها الفردوس.. إنها رؤية الله عز وجل.. إنها رضاء الله.