لا يخفى على من له علم ومعرفة بدين الإسلام أن للعلماء من رفيع المنزلة وعلو المكانة وسبق الفضل ما لا يزاحمهم فيه غيرهم من أصناف الناس، ففضائلهم في الكتاب والسنة مشهورة، ومناقبهم فيهما منشورة، فهم الواسطة بين الله وبين عباده في تبليغ الشريعة والدلالة عليه -جل وعلا-.
قال سفيان بن عيينة رحمه الله: “أرفع الناس منزلة من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء”.
فالعلماء خلفاء الرسل في أممهم ووارثوهم في علمهم، يحتاج إليهم الصغير والكبير؛ والذكر والأنثى؛ والحاكم والمحكوم. فالواجب عليهم عظيم بقدر ما تبوؤه في الأمة من المكانة والمنزلة، فبصلاحهم وقيامهم بما فرض الله عليهم من النصح والبيان يصلح معاش الناس ومعادهم. ولهذا قيل: إن زلة العالم كالسفينة تغرق ويغرق معها خلق كثير.
ولقد أخذ الله على أهل العلم ميثاق البيان وعدم الكتمان بشرطه وضابطه كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}.
وذم الكاتمين للحق المعرضين عن القيام به، فقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).
وإن وجوب البيان والنصح للأمة على أهل العلم ليتأكد في أزمنة الفتن وأيام المحن التي تنطمس فيها سبل الهدى، ويلتبس فيها الحق بالردى، وتستحكم فيها الأهواء ويتبع الناس فيها كل ناعق، ويخفى فيها الحق على طالبه، ولذلك شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتن بقطع الليل المظلم، أي: الأسود الذي لا نور فيه، كما في قوله عليه الصلاة والسلام : “بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً؛ أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا) رواه مسلم.
وقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأمة بالعز والسناء والرفعة، وأنه لن يزال فيها قائم بأمر الله علما وعملا ودعوة حتى تقوم الساعة كما في حديث المغيرة وغيره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون) متفق عليه.
ولا ريب أن أمة الإسلام اليوم في شرق الأرض وغربها تمر بمرحلة بالغة الحساسية والخطورة، هي أحوج ما تكون فيها إلى أهل العلم الراسخين في علومهم، العاملين لدينهم، الناصحين لأمتهم، العالمين بواقع الأمة وما يحيط بها من أخطار. فهؤلاء بهم تسير السفينة لتصل إلى المقصود، بل الأمة اليوم بحاجة إلى كل جهد من أبنائها المشفقين البررة، فكيف يسوغ في مثل هذه الظروف الحرجة من تاريخ أمتنا أن يترجل الفارس وينزوي بعض أهل العلم وطلبته عن ساحات البيان والنصح والإرشاد بالضوابط العلمية والقواعد المرعية؟!
بل الواجب على كل صاحب علم وخير أن يسهم في نصح الأمة بما يستطيع من قول أو رأي أو عمل، وأن يتقدم كل ناصح إلى ميادين الدعوة بالإخلاص والصدق والعلم مع نصرة السنة، فإن نصر الله جل وعلا ونصر دينه واجب على أهل الإيمان، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).
إن نجاح أهل العلم وطلابه في الاضطلاع بدورهم، -وفي إنقاذ الأمة والخروج بها من حلقات الفتن وسلاسل المحن، والإبحار بها نحو الغايات العظام- لا يمكن بلوغه ولا سبيل إلى إدراكه إلا بأسباب تخرق بها سفينة الأمة عباب هذه الأمواج المتلاطمة، فإن السفينة لا تجري على اليبس. وهذه الأسباب سلسلة من خصال البر من إخلاص العمل لله تعالى وإصلاحه بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وتقوى الله تعالى في السر والعلن، والنصح للأمة، والتحلي بأحسن الأخلاق من العلم والحلم واللين والرفق والصبر وغير ذلك من صفات الخير التي تتحقق بها صفات أئمة المتقين التي ينتظمها قول الله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، وقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ).