المسلم عزيز قوي الشكيمة، صلب الإرادة، لا يضعف ولا يذل ولا يستخذي أمام مخالفيه في العقيدة والدين، وكل ذلك من المنح الربانية والعطاء الإلهي الذي تكرم الله تعالى به على عباده.
إنها العزة والسيادة التي أشرك الله فيها المؤمنين مع نفسه المقدسة ورسوله الكريم عليه الصلاة والسلام فقال: “َلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ”.
وأجدر الناس بهذه الصفة العزيزة العالم بالله وبأحكام الدين بها يصير محتشما ومقدما عند الناس عامتهم وخاصتهم، وهكذا كان العلماء من سلفنا الصالح رضي الله عنهم ورحمهم.
فهذا القاضي أبو يوسف رحمه الله قال عنه الذهبي في السير 8/538: “بلغ أبو يوسف من رئاسة العلم مالا مزيد عليه، وكان الرشيد يبالغ في إجلاله”.
وفي تذكرة الحفاظ 4/1377: “كان الإمام الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد الجماعيلي إذا خرج إلى السوق في أصبهان اصطف الناس ينظرون إليه، ولو أقام بأصبهان مدة وأراد أن يملكها لملكها بسبب حبهم له ورغبتهم فيه”.
وفي المنتظم لابن الجوزي 16/130 لما قدم الإمام أبو إسحاق إبراهيم الشيرازي رحمه الله نيسبور تلقاه الناس، وحمل إمام الحرمين أبو المعالي الجويني حاشيته، ومشى بين يده كالخدم وقال: أنا أفتخر بهذا”.
لقد غابت هذه العزة والسيادة في وقتنا هذا عموما، ولم تكتحل العين برؤيتها في زماننا إلا قليلا، وذلك لأسباب من أهمها بل هو أساسها: ترك العمل بالعلم.
فما ظلم الله العلماء، ولكن ظلموا أنفسهم، فلم يشكروا نعمة العلم بالعمل به فسلبهم الله تعالى ثمراته ومنها العزة والسيادة، والإمامة والقيادة، فلو صان أهل العلم العلم وعظموه في النفوس بالدعوة إليه والعمل به والصبر عليه لعزوا وسادوا.
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أذلوه جهارا ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما
وليعلم أن السر في عزة العالم وسيادته بين الناس أن يوضع له القبول في الأرض، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل، فقال إني أحب فلانا فأحبه، قال فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض” البخاري ومسلم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “ومن له في الأمة لسان صدق عام بحيث يثنى عليه ويحمد في جماهير أجناس الأمة، فهؤلاء أئمة الهدى ومصابيح الدجى” الفتاوي 11/43.
وسبب ذلك كما بيناه أعلاه العمل بالعلم.
قال قتادة رحمه الله وغيره في قوله تعالى: “(وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ)، أي: لذو عمل بعلمه” تفسير ابن كثير4/320.
ومن أهم ما يجلب للعلماء العزة والسيادة ورفعة المكانة في باب العمل بالعلم: الخبيئة، من عمل الصالحات والتعبد لله في الخلوات.
قال سفيان بن عيينة رحمه الله: “كان العلماء فيما مضى يكتب بعضهم إلى بعض بهؤلاء الكلمات:
ـ من أصلح سريرته أصلح الله علانيته.
ـ ومن أصلح فيما بينه وبين الله أصلح الله فيما بينه وبين الناس.
ـ ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه”” الإيمان لابن تيمية 11.
وقال ابن المبارك رحمه الله: “إن الله عز وجل قد رفع مالك بن أنس وليس عنده كثير صلاة ولا صيام، وأرى ذلك أنه أصلح سره مع الله فرفع الله علانيته وقدره” انظر حلية الأولياء 6/330.
وقال ابن الجوزي رحمه الله: “والله لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم ويتخشع في نفسه ولباسه والقلوب تنبوا عنه، وقدره في النفوس ليس بذلك، ورأيت من يلبس فاخر الثياب وليس له كبير نفل ولا تخشع والقلوب تتهافت على محبته.
فتدبرت السبب فوجدته السريرة كما روي عن مالك ابن أنس أنه لم يكن له كثير صلاة وصوم وإنما كانت له سريرة، فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله وعبقت القلوب بنشر طيبه، فالله الله في السرائر فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر” صيد الخاطر 260.