من المقرر في الشريعة الغراء، ومن المعلوم عند العلماء أن ما يصيبنا من بلايا ومحن فبما كسبت أيدينا.
فاستشعار هذا المعنى يحمل على المسارعة إلى الأنفس، والتفتيش فيها عن الثغرات فنسدها، وعن التصدع فنقيمه، فنرجع إلى دين رب العالمين، ليتحقق النصر والتمكين.
قال عليه الصلاة والسلام: “إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم” صحيح لجامع.
هذا مع الثقة بوعد الله تعالى، قال النبي عليه الصلاة والسلام: “بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب” صحيح الجامع.
فالإيمان بهذه المفاهيم الشرعية يثمر إضعاف مكانة الأعداء في نفوس المسلمين..
الأمر الذي يدفعنا إلى استصغارهم والشموخ عليهم، لأنهم سلطوا علينا حقيقة بذنوبنا لا بقوتهم، وبمعاصينا لا بعدتهم ولا بعددهم..
الأمر الذي يقوي الروح المعنوية للمسلمين ويشد عزائم المؤمنين فلا يجعل الله لأعدائهم رهبة في نفوسهم، ولا خوفا في قلوبهم، وهذا الأخير من أعظم عوامل النصر والتمكين، وقد أشار ربنا جل وعلا إلى ذلك في كتابه حيث قال عقب غزوة بدر: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} الأنفال43 .
قال ابن عاشور رحمه الله في تفسير الآية: “وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى رؤيا منام جيش المشركين قليلا أي قليل العدد وأخبر برؤياه المسلمين، فتشجعوا للقاء المشركين وحملوها على ظاهرها وزال عنهم ما كان يخامرهم من تهيب جيش المشركين .
فكانت تلك الرؤيا من أسباب النصر، وكانت تلك الرؤيا منة من الله على رسوله والمؤمنين، وكانت قلة العدد في الرؤيا رمزا وكناية عن وهن أمر المشركين لا عن قلة عددهم”اهـ، التحرير والتنوير.
وعليه فاستعظام الكفار، واستكثارهم، والمبالغة في الحديث عن قوتهم خاصة عند جماهير المسلمين، يضعف نفوسهم، ويلقي الخوف في قلوبهم، ويقوي العدو معنويا، بخلاف استضعافهم، فإنه يضعف نفوس الأعداء، ويقوي العزائم في نفوس المسلمين التي جعلها الله سببا من أسباب النصر.
وها هو الإمام ابن القيم رحمه الله يقول في حق الأعداء مشيرا إلى هذه الحقيقة في نونيته:
لا تخش كثرتهم فهم همج الورى — وذبابه أتخاف من ذبان
مع العلم أن استصغارهم والاستخفاف بهم شيء، والإعداد والحذر شيء آخر.
فلا يعني من قريب أو بعيد أن ما ذكرناه يلزم منه عدم الحذر، بل الحذر واجب بدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ }النساء71.
فهذا أمر، وذاك أمر آخر.
ولا يعني هذا من قريب أو بعيد التقصير في إعداد العدة، وتهيئة الأسباب المادية.. كلا، ثم كلا.. فهذا -أيضا- أمر، وذاك أمر آخر.
قال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} الأنفال60.
وهذا الفرق لا يدركه إلا من تفقه بفقه الكتاب والسنة، على مسلك سلف الأمة، وكان من التائبين إلى الله تعالى والمستغفرين له كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، لأنه لم يوف بوعده في نصر المؤمنين!!
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع وليتب إلى الله تعالى وليستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء، ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين، الغني الحميد، الذي له الغنى التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه..” زاد المعاد 3/235.