العلماء في الغالب على خير وأمرهم على العدالة بإذن الله تعالى كما قال الغزالي رحمه الله في المستصفى 1/373: “العلماء كلهم عدول إلا الآحاد” اهـ.
إلا أن الأيام وتقلباتها والمعيشة ومتطلباتها والدنيا ومغرياتها.. تترك في البعض آثرها فينقلب الحال إلى ما لم يكن في الحسبان والنية، فتغلب بعد التأني البلية، ففي الغالب تكون البداية عزما لتحمل هم الدعوة، وإلى الاستدلال إلى سبل الرشاد والإرشاد إليها.
فهل من باق على حاله من وقت شبابه إلى مشيبه؟! وهل من صامد على طريقته من محياه إلى مماته؟!
فالعلماء هم الوسائط بين الله وعباده، وهم الأدلاء للخلق على ما أراده الحق، كما قال الشاطبي رحمه الله: “إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال، فالحق أيضا لا يعرف دون وسائطه، بل بهم يتوصل إليه وهم الأدلاء على طريقه” الإعتصام 1/548.
وعليه فإن بصلاحهم صلاح الناس والعكس بالعكس.
قال ابن القيم رحمه الله: “لما كان قيام الإسلام بطائفتي: العلماء والأمراء وكان الناس كلهم لهم تبعا كان صلاح العالَم بصلاح هاتين الطائفتين وفساده بفسادهما” الإعلام الموقعين 1/8.
فلا يختلف عاقلان في خطورة دور العلماء في مختلف أصعدة الحياة، ويتأتى من خطورة هذا الدور خطر التفريط به أو إهماله أو تضييعه، لأن في ذلك تفريط وتضييع لميثاق الله عز وجل.
قال تعالى: “وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ”.
قال السعدي في تفسير الآية: “الميثاق هو العهد الثقيل المؤكد، وهذا الميثاق أخذه الله تعالى على كل من أعطاه الله الكتب وعلمه العلم، أن يبين للناس ما يحتاجون إليه مما علمه الله، ولا يكتمهم ذلك، ويبخل عليهم به، خصوصا إذا سألوه، أو وقع ما يوجب ذلك، فإن كل من عنده علم يجب عليه في تلك الحال أن يبينه، ويوضح الحق من الباطل.
فأما الموفقون، فقاموا بهذا أتم القيام، وعلموا الناس مما علمهم الله ابتغاء مرضاة ربهم، وشفقة على الخلق، وخوفا من إثم الكتمان.
وأما الذين أوتوا الكتاب، من اليهود والنصارى ومن شابههم، فنبذوا هذه العهود والمواثيق وراء ظهورهم، فلم يعبأوا بها، فكتموا الحق، وأظهروا الباطل، تجرؤا على محارم الله، وتهاونا بحقوق الله، وحقوق الخلق، واشتروا بذلك الكتمان ثمنا قليلا، وهو ما يحصل لهم إن حصل من بعض الرياسات، والأموال الحقيرة، من سفلتهم المتبعين أهواءهم، المقدمين شهواتهم على الحق”.
فالله الله في الميثاق والعهد، فانظر إلى المسؤولية العظمى التي يتحملها العلماء عموما -مع وجود بعض من قام بواجبه منهم أحسن قيام وأوفاه- في وصول الأمة الإسلامية إلى حالتها الراهنة من تفكك وضياع وانحراف الأهواء وتفشي الصراعات.
فمقارنة خاطفة بين مسؤولية فرد عادي بين مئات الملايين ومسؤولية عالم من العلماء بين عدة آلاف منهم على عظم دورهم تبرز الفرق الكبير بين الفرد المسلم المكلف بنفسه ومحيطه، والعالم المسلم المكلف بالأمة وأحوالها وشؤونها العامة والخاصة.
إن العلماء وقد عظمت مسؤوليتهم كما بينا هم المنارة التي يهتدي بها الناس جميعا والتي تميز الحق من الباطل، وتكشف المحق من المبطل، المنارة التي لا تمل البحث عن الضالين لتهديهم إلى شواطئ الأمان، والتي يلتجئ إليها الهاربون من عواصف الزمان ومخاوف الحدثان، المنارة التي لا يخبوا نورها بظلام ولا ينطفئ شعاعها بضباب، إذا وفي بالعهد وأخذ بالميثاق على الوفاق دون شقاق، وآثر العلماء الآخرة على الدنيا، فإنه من علامات العالم الحق أنه لا يطلب الدنيا بعلمه، لأنه أدرك حقارة الدنيا وخستها وكدورتها، وعظم الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها، وجلال ملكها، فهو يعلم أنهما متضادتان، وأنهما كالضرتين مهما أرضى إحداهما سخطت الأخرى..
قال الغزالي رحمه الله: “ومن لا يعلم مضادة الدنيا للآخرة وأن الجمع بينهما طمع في غير مطمع فهو جاهل بشرائع الأنبياء كلهم.. فكيف يعد من زمرة العلماء؟
ومن علم هذا كله ثم يؤثر الآخرة على الدنيا فهو أسير الشيطان قد أهلكته شهوته وغلبت عليه شقوته، فكيف يعد من حزب العلماء من هذه درجته” اهـ الإحياء 1/60.