حدوث الفتن والمحن في واقع الأمة المسلمة ليس ضربا من ضروب الصدفة المحضة، بل هو قدر الله تبارك وتعالى الذي سبق به علمه سبحانه في الأزل قبل خلق السموات والأرض، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى قد أخبر أمته بحدوث تلك الفتن في آخر الزمان، ونقل إلينا ذلك الإخبار بأحاديث صحاح لا مرية في ثبوتها على الإطلاق.
وإنما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بهذه الفتن قبل حدوثها لحكمة عظيمة بالغة، تلكم الحكمة تتجلى في أمرين رئيسين:
الأمر الأول: تهيئة أذهان ونفوس الأمة المسلمة للخطر الذي سيحل بها، حتى لا يستولي عليها هول المفاجأة، فتقع تحت وطأة ذهول الفكر، وحينئذ تطيش سهامها، وتضطرب أقدامها، فلا تحسن التصرف، ولا تهتدي إلى سبيل النجاة.
فإذا أخبرت مسبقا بحدوث ذلك الخطر تهيأت له التهيئة المناسبة -على ضوء توجيهات الشرع- فتخف الصدمة، ويهون الخطب.
الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أمته بحدوث الفتن، من أجل أن يبين لها السلاح الشرعي الذي تواجه به تلك الفتن، حتى يسلم لها دينها.
وإذا ثبت أن حدوث تلك الفتن أمر حتمي لا مفر منه؛ لأنه قدر الله تبارك وتعالى، فلنتساءل: ما مصدر الفتن التي وقعت وستقع على الأمة: هل مصدرها خارجي من غير الأمة، أو أن مصدرها داخلي من تلقاء أنفسها؟
من تأمل النصوص الشرعية الواردة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، يجدها واضحة وصريحة في أن مصدر الفتن التي تقع على الأمة المسلمة إنما هو من داخلها، وليس من خارجها، فعند الإمام مسلم رحمه الله تعالى من حديث الصحابي الجليل عامر بن سعد عن أبيه رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مرَّ بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربه طويلا، ثم انصرف إلينا، فقال صلى الله عليه وسلم: «سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها».
وعند الإمام ابن ماجه رحمه الله تعالى من حديث الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة فأطال فيها، فلما انصرف قلنا: يا رسول الله أطلت اليوم الصلاة؟ قال: «إني صليت صلاة رغبة ورهبة، سألت الله عز وجل لأمتي ثلاثا، فأعطاني اثنتين ورد علي واحدة، سألته ألا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها، وسألته ألا يهلكهم غرقا فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فردها علي» الصحيحة رقم : 1724.
فالله عز وجل قد وعد رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بألا يسلط على هذه الأمة عدوا من غيرها يستبيح بيضتها، وهذا يدل دلالة واضحة على أن الفتن التي ستصيب المسلمين إنما هي بسبب منهم، لا بسبب من غيرهم.
وقد يقول القائل: إن العدو المسلط على الأمة الآن هو من غيرها، وليس منها؟
والجواب عن هذا يكون بسؤال، مفاده: من الذي مهد الطريق للعدو الخارجي من السيطرة على المسلمين؟
الأمة المسلمة هي التي مهدت الطريق لسيطرة العدو الخارجي عليها (ولا يعني هذا تبرئتها فتنبه)، نتيجة تخليها عن تعظيم دينها، وعدم تحكيمه في جميع شؤون حياتها، وبتساهلها في إعداد القوة الرادعة التي تحمي حوزة الإسلام وبيضة المسلمين، وكأننا بالأمة المسلمة يحكي حالها -بواقعها المرير الذي تعيشه في الوقت الحاضر- قول الحق سبحانه: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
فالله جل جلاله توعد من أعرض عن دينه بالمعيشة الضنك التي تعني الذلة والمهانة والخزي في الدنيا حين قال سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا.
والنبي صلى الله عليه وسلم حين بين لنا أن مصدر الفتن من داخل الأمة نفسها، إنما هو بذلك يؤكد لنا تلك الحقيقة الناصعة التي ذكرها الحق تبارك وتعالى في كتابه العظيم، بقوله سبحانه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ.
وبقوله جل شأنه: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.