ابتليت الأمة الإسلامية بتعريب كتب اليونان التي ابتدأ دخولها في العهد الأموي بدون توسع ولا انتشار، حيث كان المشتغلون بالفلسفة اليونانية، المعجبون بالمنطق الأرسطي آحاد الناس على خفية من علماء أهل السنة والجماعة الذين حذَّروا منها لمباينتها للعقائد الصحيحة، إلاَّ أن كتب اليونان قد شاعت في عهد الدولة العباسية، وعظم ذلك وقوي أيام المأمون حيث كان حرصه على نشره والحث عليه أعظم من الاشتغال بعلوم الأوائل (مجموع الفتاوى لابن تيمية: 9/265، صون المنطق للسيوطي: 12).
ثم تحقق بعد إقحام المنطق بصورة حقيقية في العلوم الشرعية لاسيما في علم الأصول على يد أبي حامد الغزالي رحمه الله الذي اشترطه لتحصيل العلوم والاجتهاد، وجعله معيار العلوم العقلية وميزانًا لها ، وتأثر بكلامه كثير من المتأخرين حتى أوجبوا تعلم المنطق وجعلوه من فروض الكفاية أو من شروط الاجتهاد.
هكذا كانت عناية كثير من المصنفين بعلم المنطق الأرسطي حتى أسهموا في إقحامه ضمن العلوم الشرعية زعما منهم بأنه سبيل إلى معرفة الطرق والأساليب الموصلة للصواب، وقد أثر سلبًا اختلاط المنطق بالعلوم الشرعية، وكان من أعظم الجنايات على دين الإسلام وأهله، مع العلم أنه لم تكن كتب المنطق والفلسفة محل تقدير عند الراسخين في العلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ولا يجوز لعاقل أن يظن أنَّ الميزان العقلي الذي أنزله الله هو منطق اليونان لوجوه:
أحدها: إنَّ الله أنزل الموازين مع كتبه قبل أن يخلق اليونان من عهد نوح وإبراهيم وموسى -عليهم الصلاة والسلام- وغيرهم..
الثاني: إنَّ أمتنا أهل الإسلام ما زالوا يزنون بالموازين العقلية، ولم يسمع سلفًا يذكر هذا المنطق اليوناني، وإنما ظهر في الإسلام لما عربت الكتب الرومية في عهد دولة المأمون أو قريبًا منها.
الثالث: إنَّه ما زال نظار المسلمين بعد أن عرب وعرفوه، يعيبونه ويذمونه ولا يلتفتون إليه ولا إلى أهله في موازينهم العقلية والشرعية..” (مجموع الفتاوي 9/240-241).
ومن المفاسد الناتجة عن إدخال كتب اليونان في أصول الدين أن شوَّهت العقيدة السليمة بلوازم فاسدة، فيها تكذيب صريح للقرآن، وصحيح العقل، كالقول بقدم العالم، لأنَّ الإله لم يسبق العالم في الوجود الزمني عياذا بالله وإن كان يسبقه في الوجود الفكري، مثلما تسبق المقدمة النتيجة في الوجود، ومن أعظم ذلك إساءة الظن برب العالمين بقصر علمه سبحانه بالأمور الكلية دون الجزئية، وأيضا إنكار الصفات الثبوتية لله تعالى، ويصفونه بالسلوب المحض، وبذلك نفوا أن يكون الله فاعلاً مختارًا، ونفوا الصفات عن الله تعالى ثم شبهوه بالجمادات، ومن المفاسد الإنكار للنبوات واعتبارها أمرًا مكتسبًا تستعدُّ له النفوس بأنواع الرياضات وليست النبوة -عندهم- هبة من الله ومنته على بعض عباده، وكذا الأخبار المتواترة عند المناطقة احتمالية الصدق، فهذا غيض من فيض مما يسببه المنطق الأرسطي من تفريق كلمة المسلمين، وتذبذب معتقدهم، وشق عصاهم، ونبذ جماعتهم، فالاضطراب والشك والنزاع والحيرة عالق بأهل المنطق والمشتغلين به فلا يكاد يوجد اثنان منهم يتفقان على مسألة ما حتى تلك التي يطلقون عليها اسم”البدهيات” أو “اليقينيات”!
وقد لزم مما مر جناية المنطق الأرسطي على الإسلام وأهله عموما ويتمثل ذلك في: ضعف توقير الكتاب والسنة في نفوس المعجبين بعلم الكلام اغترارًا بالأدلة العقلية الموزونة بميزان المنطق وتقديمها على أدلة الشرع، ولم تعد لأدلة الوحيين قيمة ذاتية إلاَّ على وجه الاستئناس بها والمعاضدة للأدلة العقلية عند التوافق معها، أمَّا في حالة التعارض فإنَّ نصوص الوحي من الكتاب والسنة ترد ردًّا كليا بإلغاء مدلوليهما، وتأويلهما على وجه يتوافق -في زعمهم- مع العقل المشفوع بالمنطق لقطعيته وظنيتهما، والقطعي لا يعارضه الظني ولا يقاومه. الأمر الذي أدَّى إلى الاستغناء عن نصوص الوحيين بآراء الرجال وأقيسة المناطقة وهرطقات الفلاسفة، وأبعدهم عن مقتضى وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الأمة بما يكفل لها النجاة والهدى إذا اعتصمت بالكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، وتحاكمت إليهما في موارد النزاع، وتباعدت عن وجوه الضلالات والبدع.
قال أحد بطارقة الروم:”فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلاَّ أفسدتها وأوقعت بين علمائها” (صون المنطق للسيوطي: 9).