لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها

هذا العنوان جملة إن لم تكن من كلام النبوة فإن عليها مسحة من النبوة، ولمحة من روحها، وومضة من إشراقها، والأمة المشار إليها في هذه الجملة أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وصلاح أول هذه الأمة شيء ضربت به الأمثال، وقدمت عليه البراهين، وقام غائبه مقام العيان، وخلدته بطون التواريخ، واعترف به الموافق والمخالف، ولهج به الراضي والساخط، وسجلته الأرض والسماء، فلو نطقت الأرض لأخبرت أنها لم تشهد -منذ دحاحها الله- أمة أقوم على الحق وأهدى به من أول هذه الأمة، ولم تشهد -منذ دحاحها الله- مجموعة من بني آدم اتحدت سرائرها وظواهرها على الخير مثل أول هذه الأمة، ولم تشهد -منذ دحاحها الله- قوما بدؤوا في إقامة قانون العدل بأنفسهم، وفي إقامة شرعة الإحسان بغيرهم مثل أول هذه الأمة، ولم تشهد منذ أنزل الله إليها آدم وعمرها بذريته مثالا صحيحا للإنسانية الكاملة حتى شهدته في أول هذه الأمة، ولم تشهد أمة وحدت الله فاتحدت قواها على الخير قبل هذه الطبقة الأولى من هذه الأمة.

..هذه الأمة استقامت في مراحلها الأولى على هدي القرآن وعلى هدي من أنزل على قلبه فبينه بالأمانة، وبلغه بالأمانة، وحكم به بالأمانة، وحكمه في النفوس بالأمانة، وعلم وزكى بالأمانة، ونصبه ميزانا بين أهواء النفوس وفرقانا بين الحق والباطل، وحدا لطغيان الغرائز وسدا بين الوحدانية والشرك، فكان أول هذه الأمة يحكمونه في أنفسهم ويقفون عند حدوده ويزنون به حتى الخواطر والاختلاجات، ويردون إليه كل ما يختلف فيه الرأي أو يشرد فيه الفكر، أو يزيغ فيه العقل، أو تجمح فيه الغريزة، أو يطغى فيه مطغى النفس.
فالذي صلح به أول هذه الأمة، حتى أصبح سلفا صالحا، هو هذا القرآن الذي وصفه منزله بأنه إمام وأنه موعظة، وأنه نور وأنه بينات، وأنه برهان وأنه بيان، وأنه هدى، وأنه فرقان، وأنه رحمة، وأنه شفاء لما في الصدور، وأنه يهدي للتي هي أقوم، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه قول فصل، وما هو بالهزل..
القرآن هو الذي أصلح النفوس التي انحرفت عن صراط الفطرة وحرر العقول من ربقة التقاليد السخيفة وفتح أمامها ميادين التأمل والتعقل ثم زكى النفوس بالعلم والأعمال الصالحة وزينها بالفضائل والآداب، والقرآن هو الذي أصلح بالتوحيد ما أفسدته الوثنية، وداوى بالوحدة ما جرحته الفرقة واجترحته العصبية، وسوى بين الناس في العدل والإحسان فلا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، ولا لملك على سوقة إلا في المعروف، ولا لطبقة من الناس فضل مقرر على طبقة أخرى..
والقرآن هو الذي بلغ بهم إلى تلك الدرجة العالية من التربية، ووضع الموازين القسط للأقدار فلزم كل واحد قدره، فكان كل واحد كوكبا في مداره، وأفرغ في النفوس من الأدب الإلهي ما صير كل فرد مطمئنا إلى مكانه من المجموع، فخورا بوظيفته منصرفا إلى أدائها على أكمل وجه، واقفا عند حدودها من غيره عالما أن غيره واقف عند تلك الحدود، فلا المرأة متبرمة بمكانها من الرجل، لأن الإسلام أعطاها حقها واستوقن لها من الرجل واستوثق منه على الوفاء، ولا العبد متذمر من وضعه من السيد، لأن الإسلام أنقذه من ما ضيه فهو في مأمن، وحدد له يومه فهو منه في عدل ورضا، وهو بعد ذلك من غده في أمل ورجاء ينتظر الحرية في كل لحظة وهو منها قريب، وما دام سيده يرى في عتقه قربة إلى الله وطريقا إلى الجنة وكفارة للذنب..
القرآن إصلاح شامل لنقائص البشرية الموروثة، بل اجتثاث لتلك النقائص من أصولها، وبناء للحياة السعيدة التي لا يظلم فيها البشر، ولا يهضم له حق على أساس من الحب والعدل والإحسان،..العقائد فيه صافية، والعبادات خالصة، والأحكام عادلة، والآداب قويمة، والأخلاق مستقيمة، والروح لا يهضم لها فيه حق، والجسم لا يضيع له مطلب.
هذا القرآن هو الذي صلح عليه أول هذه الأمة وهو الذي لا يصلح آخرها إلا عليه..
فإذا كانت الأمة شاعرة بسوء حالها، جادة في إصلاحه، فما عليها إلا أن تعود إلى كتاب ربها فتحكمه في نفسها، وتحكم به، وتسير على ضوئه، وتعمل بمبادئه وأحكامه، والله يؤيدها ويأخذ بناصرها وهو على كل شيء قدير. (آثار العلامة محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله، 4/ 94-95).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *