الدَّعوةُ للقراءة الجديدة للنَّصِّ الشَّرعيِّ

إنَّ من الفتن التي ظهرت في هذا العصر مُحْييةً منهج الباطنية القدامى بصورة عصرية: الدَّعوة إلى إعادة قراءة النَّصّ الشرعي قراءة جديدة تكون -بزعمهم- متواكبةً مع تَطَوُّرات الحياة المعاصرة ومتناسبةً معها.

وتهدف هذه الدَّعوةُ إلى مراجعة شاملة للنُّصوص الشَّرعيَّة كافَّةً؛ فهي قراءةٌ لا يستعصي عليها شيءٌ من أصول الدِّين وفروعه؛ بل حتَّى قضيَّة التَّوحيد في الإسلام قابلةٌ للتَّأويل والقراءة الجديدة.
وقد أدَّت هذه القراءات الجديدة إلى تحريف معاني القرآن والسُّنَّة، ومناقضة قطعيَّات الشَّريعة؛ بل ومصادَمة الأصول المقرَّرة الثَّابتة.
وتأتي خطورةُ هذا الاتِّجاه من ناحيتين
الأولى: أنَّ هذه الدَّعوةَ قامت على أيدي أناس يتظاهرون بالانتساب لهذا الدِّين؛ ممَّا يجعل لدعوتهم رواجًا وقبولاً لدى كثير من النَّاس؛ فهي خطَّةٌ تقوم على التَّغيير من داخل البيت الإسلاميِّ من خلال العبث بالنُّصوص الشَّرعيَّة بتحريفها وتفريغها من محتواها الحقيقيِّ، ووضع المحتوى الذي يريدون؛ فهم يَطرحون أفكارَهم وآراءَهم على أنَّها رؤى إسلاميَّة ناشئة عن الاجتهاد في فهم الدِّين.
ولقد حذَّرنا النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام من أمثال هؤلاء؛ فعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: كان النَّاسُ يَسألون رسولَ الله عليه الصلاة والسلام عن الخير، وكنتُ أسألُه عن الشَّرِّ مخافةَ أن يدركَني.
فقلتُ: يا رسولَ الله، إنَّا كنَّا في جاهليَّة وشَرٍّ، فجاءنا اللهُ بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شَرٍّ؟
قال: «نعم».
قلت: وهل بعد ذلك الشَّرِّ من خير؟
قال: «نعم، وفيه دخن».
قلت: وما دَخَنُه؟
قال: «قومٌ يَهدون بغير هديي، تعرف منهم وتُنكر».
قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟
قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها».
قلت: يا رسول الله صفهم لنا.
فقال: «هم قوم من جلدتنا، ويتكلَّمون بألسنتنا» متفق عليه.
فهم يَسْتَشهدون بالنُّصوص نفسها التي نستشهد بها ولا يجحدونها، ولكن يُفَسِّرونها تفسيرًا فاسدا باطلا مغايرًا لتفسير السَّلَف الصَّالح.
الثَّانية: أنَّ هذه الظَّاهرةَ بدأت تتنامى في عالمنا الإسلاميِّ اليوم، ويقوم بالدّعوة إليها أفرادٌ من مختَلَف الأقطار العربيَّة والإسلاميَّة، وتتلقَّف الصُّحُف وغيرُها من وسائل الإعلام أقوالَهم بالتَّلَقِّي والقبول، وتعرض لهم المقابلات تلوَ المقابلات.
عصرانيُّون متشبعون بمذاهب فلسفية غربية، يرومون إخضاعَ نصوص الشَّريعة لمعطيات هذه المذاهب.
ولا يكاد يخلو بلدٌ إسلاميٌّ من ممثِّلين لهذه الطائفة ومنتمين إليها، يسيرون على طريقتهم، ويرضعون من لبانهم.
وهذه الدَّعوةُ دعوةٌ قديمةٌ جديدةٌ؛ فهي قديمةٌ لوجود جذور تاريخيَّة لها، وقد ظهر في هذه الأمَّة سابقًا مَن حاوَلَ تحريفَ النُّصوص عن معانيها بالتَّأويل الباطل.
وجديدة لأنَّها تقوم على أسس وقواعد وتأصيلات منهجيَّة لهذا المنحى الباطل؛ فهي مصنعٌ لتوليد المعاني الباطلة الموافقة لرغباتهم وأهوائهم، ومحاولة “شرعنتها” في زعمهم وإيجاد المستندات لها.
وقد حَمَلَ هذا الاتجاهُ شعارًا هو الأخطرُ في سياق الشِّعارات المطروحة في هذا العصر؛ إنَّه شعار (التَّحديث والعصرنة للإسلام)؛ فهم يريدون منَّا تركَ ما أَجْمَعَتْ عليه الأُمَّةُ من معاني القرآن والسُّنَّة لفهم جديد مغاير لفهم السَّلَف الصَّالح يكون متناسبًا مع هذا العصر الذي نعيش فيه.
ولذلك لما سُئل محمد أركون عن كيفيَّة التَّعامل مع النُّصوص الواضحة غير المحتملة؛ كقوله تعالى: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)، قال: «في مثل هذه الحالة لا يمكن فعل أي شيء إلا إعادة طرح مسألة التفسير القرآني؛ لا يمكننا أن نستمرَّ في قبول ألَّا يكون للمرأة قسمةٌ عادلة!! فعندما يستحيل تكيُّفُ النَّصِّ مع العالم الحالي ينبغي العملُ على تغييره» في حوار أجرته معه مجلة فرنسية.
ويقولُ محمَّد شحرور: «لا ضرورةَ للتَّقيُّد بالنُّصوص الشَّرعيَّة التي أوحيت إلى محمد رسول الله في كلِّ ما يتعلَّق بالمتاع والشَّهوات؛ ففي كلِّ مرَّة نرى في هذه النُّصوص تشريعًا لا يتناسب مع الواقع، ويعرقل مسيرة النُمُوّ والتَّقَدُّم والرفاهية، فما علينا إلا أن نميل عنه» الكتاب والقرآن.
فالرَّغبةُ في مسايرة الواقع والافتنان بالحياة الغربيَّة والتَّأَثُّر بمدارسها الفلسفيَّة والدِّارسة في جامعاتهم مع ضغوط الأعداء والجهل بالشَّريعة كلّ ذلك كان سببًا في ظهور هذه المدرسة التَّحريفيَّة.
أعاذنا الله من شرها، وسلم المسلمين من كيدها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *