التَّسليم للنُّصوص الشَّرعيَّة وتلقِّيها بالقبول

إنَّ من أعظم نعم الله تعالى على عباده المؤمنين أنَّه لم يجعل أمرَ الطَّريق الموصل إليه ملتبسًا عليهم؛ بل بيَّنَه سبحانه وتعالى أكملَ بيان وأوضحَه: )لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(.
وعليه فالقرآنُ الكريمُ والسُّنَّةُ الصَّحيحةُ هما المصدرُ الأساسُ للأحكام الشَّرعيَّة؛ فلا مصدرَ للأحكام الشَّرعيَّة ولا أساسَ لها إلا الوحي، وهو نوعان: القرآن (الكتاب) والسُّنَّة (الحكمة).
قال الشَّافعيُّ رحمه الله: «فذكر الله الكتابَ وهو القرآن، وذكر الحكمةَ، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمةُ سنَّةُ رسول الله عليه الصلاة والسلام».
ولقد مضى عصرُ السَّلَف الصَّالح وهم لا يفرِّقون من حيث التَّطبيق والتَّنفيذ والسَّمع والطَّاعة بين حكم شرعيٍّ نزل به القرآن أو جاءت به سنَّةُ رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وعلى هذا النَّهج سارت الأمَّةُ طيلةَ القرون الثَّلاثة الفاضلة، وهي تقدِّم النَّصَّ بنوعيه وتقدِّسُه، وتعمل بهديه ولا تعدل عنه، وتسلِّم له تسليمًا تامًّا.
فالتسليم للنصوص الشرعية بالرضا والقبول من أصول الإسلام، وأساسيات هذا الدين التي لا يقوم ولا يتم إلا بها؛ فالإسلام هو الاستسلامُ لله والانقيادُ له ظاهرًا وباطنًا؛ وهو الخضوعُ له والعبوديَّةُ له، قال أهل اللغة: أسلم الرجل، إذا استسلم .
فالتسليم هو: خضوع القلب، وانقياده لما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والاستسلام للنُّصوص من أجل مقامات الإيمان.. وهو محض الصِّدِّيقيَّة التي هي بعدَ درجة النُّبُوَّة، وأكمل النَّاس تسليمًا أكملُهم صدِّيقيَّةً.
ولا أحد أحسنُ دينًا، ولا أصوبُ طريقًا، ولا أهدى سبيلاً ممَّن أسلم وجهَه لله تعالى فانقاد له بالطَّاعة التَّامَّة؛ (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ)؛ فهذه حالُ المؤمن: «كمالُ التَّسليم والانقياد لأمره، وتلقِّي خبره بالقبول والتَّصديق دون أن يحملَه معارضةُ خيال باطل يسمِّيه معقولاً، أو يحمِّله شبهةً، أو شكًّا، أو يُقدِّم عليه آراءَ الرِّجال وزبالات أذهانهم».
قال الزُّهريُّ رحمه الله: «من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التَّسليم»، «ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التَّسليم والاستسلام»؛ فالوحيُ الإلهيُّ «لا سبيلَ إلى مقابلته إلا بالسَّمع والطَّاعة والإذعان والقبول؛ وليس لنا بعدَه الخيرةُ، وكلُّ الخيرة في التَّسليم له والقول به، ولو خالفه مَن بَين المشرق والمغرب»؛ قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)؛ فلا ينبغي ولا يليق ممَّن اتَّصَفَ بالإيمان إلا الإسراع في مرضاة الله ورسوله، والهرب من سَخَط الله ورسوله، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما.
ولا يليق بمؤمن ولا مؤمنة (إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا) من الأمور وألزما به (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أي: الخيار؛ هل يفعلونه أم لا؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة أنَّ الرَّسولَ عليه الصلاة والسلام أولى به من نفسه؛ فلا يجعل بعضَ أهواء نفسه حجابًا بينَه وبين أمر الله ورسوله.
وقد أقسم تعالى بذاته المقدَّسة أنَّه لا يثبت لأحد إيمان، ولا يكون من أهله، حتى يُحكِّمَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
فالتَّسليمُ بما دلَّت عليه النُّصوص هو الفرقان بين أهل الحقِّ وأهل الباطل؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «جماع الفرقان بين الحقِّ والباطل والهدى والضَّلال والرَّشاد والغيّ وطريق الشقاوة والهلاك: أن يجعل ما بعث الله به رسلَه وأنزل به كتبَه هو الحقُّ الذي يجب اتِّباعُه؛ وبه يَحصلُ الفرقانُ والهدى، والعلم والإيمان؛ فيُصَدَّق بأنَّه حقٌّ وصدقٌ، وما سواه من كلام سائر الناس يُعْرَضُ عليه؛ فإن وافقَه فهو حقٌّ، وإن خالفَه فهو باطلٌ».
كما أن التَّسليمُ لنصوص الكتاب والسُّنَّة هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمَّدًا رسولُ الله؛ فإنَّ الشَّهادةَ لله بالوحدانية الموجبة لإفراده بالعبودية مبناها على التَّسليم التَّامِّ له في أمره ونهيه وخبره، وعدم المعارضة وإيراد الأسئلة (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) ، ومقتَضَى الشَّهادة للنَّبيِّ عليه الصلاة والسلام بالرِّسالة تصديقُه فيما أخبر، وطاعتُه فيما أمر، والانتهاءُ عمَّا عنه نهى وزجر، وألَّا يُعبدَ اللهُ إلَّا بما شرَّع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *