ما أحوجنا في زمن انحلت فيه الأخلاق والآداب، وكثرت فيه الشهوات والشبهات، واقتدى الناس فيه بمن حاد عن الصواب إلى القدوة الحسنة التي تحمل الناس على الخير وتبعثهم على الاستقامة.
ولا أعظم ولا خير ممن جعله الله تعالى قدوة لنا فقال سبحانه: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً”.
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره للآية: “هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله؛ ولهذا أمر الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين؛ ولهذا قال تعالى للذين تقلقوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) أي: هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله؟ ولهذا قال: ( لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)” .
فالآية تكلفنا بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم والسير على طريقته وتعتبر سيرته التطبيق العملي لذلك. ومن ثم كان السلف الصالح رضوان الله عليهم كما يتعلمون القرآن ويعلمونه, يتعلمون سيرة النبي العدنان عليه الصلاة والسلام ويعلمونها ففي”البداية والنهاية” للحافظ ابن كثير رحمه الله أن عليا بن الحسين رحمه الله كان يقول: كنا نُعَلَّمُ مغازي النبي عليه الصلاة والسلام كما نعلم السورة من القرءان” 3/241.
فمن أراد التأسي فعليه الاقتداء بسيرة النبي عليه الصلاة والسلام في مختلف المجالات وفي شتى الميادين فقد كانت تصرفاته صلى الله عليه وسلم وهو الرسول الكريم باعتبارات متنوعة كما قرر العلماء: باعتباره وليا للأمة وإماما للمسلمين وباعتباره قاضيا، وباعتباره مفتيا، وباعتباره مرشدا وباعتباره ناصحا، وباعتباره عابدا لله شاكرا… فالنبي عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة لأئمة المسلمين، وأسوة حسنة للقضاة والمفتين، وأسوة حسنة للدعاة والمرشدين، وأسوة حسنة للرجل في بيته، وأسوة حسنة لعامة الناس أجمعين. فهو عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة لكل الطبقات والفئات.
فما أحوج الناس -إذن- إلى الوقوف عند سيرته الزكية ودراستها على وفق منهج الصحابة رضي الله عنهم وقواعد أهل السنة والحديث لا على طريقة العلمانيين والمبتدعين، مع العمل والسير على خطاها حيث لا ينبغي أن تقرأ السيرة النبوية قراءة قِصص وحكايات وإنما قراءة اعتبار وعظات. فالمرء يجد في سيرة هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام السلوك المثالي الذي تتساقط عنده دعاوى المغرضين والزائفين ويجد فيها الصورة المشرقة الحية للإنسانية الحقة، ويجد فيها مفتاح السعادة الحقيقية.
قال موفق الدين الشافعي رحمه الله: “ينبغي أن تكون سيرتك سيرة الصدر الأول فاقرأ السيرة النبوية وتتبع أفعاله واقتف آثاره، وتشبه به ما أمكنك…” السير 22/322. فإذا كانت -إذن- السيرة ضرورية للإنسان بشكل عام، فإنها أشد ضرورة للإنسان المسلم في وقت كثرت فيه الدعوات الأرضية واشتد فيه الظلام وظهر الباطل على الحق ظهورا آنيا، وسيطرت فيه المادية فغيرت كثيرا من القيم السامية. نعم ما أشد ضرورة العبد المؤمن لدراسة السيرة النبوية في زمن حار فيه الكثير من الناس فانغمسوا في القيم الهابطة التي غزت العقول والقلوب والمجتمعات.
نعم ما أحوجنا إلى أن نجعل سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام مصدرا وأساسا للتأسي والاتباع، لأنها تجسيد حي لتعالم الإسلام كما أراد الله أن تطبق في عالم الواقع. قال تعالى: “قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”.
لقد أصبحت حاجتنا إلى دراسة السيرة النبوية الشريفة أكثر من حاجتنا إلى المأكل والمشرب، لِما عمَّ وانتشر من فساد بين المسلمين حتى أوشكوا أن يعتبروه من الأمور الجائزة، إذ أصبحنا نسمع ونرى تنظيم مهرجانات “الهيب هوب” وتُخصص له البرامج في الشاشات التي تمول بالمال العام، ويروج لها على أنها اختيارات للشباب وتعبيرات عن همومه، فلله المشتكى من حفنة العلمانيين الذين لم يتركوا ساقطا إلا أعلوا شأنه، ولا فاحشة إلا نشروها بين العباد.
السبيل