تتردّدُ على أقلام الكُتَّاب العرب، وعلى ألسنة خطبائهم منذ عهد قريب كلمات: الوعي، اليقظة، النهضة، منسوبة إلى الإسلام، أو مضافة إلى المسلمين، والكلمة الأولى منهن حديثة الاستعمال في المعنى الاصطلاحي المراد منها وإن كانت عريقة النسبة في معناها الوضعي، والوعي في معناه الاجتماعي الذي يعنيه هؤلاء الكُتَّاب والخطباء إدراك بعد جهل، واليقظة في قصدهم تنبُّه بعد غفلة، والنهضة معناها حركة بعد ركود.
فهل هذه الأقلام والألسنة متهافتة على هذه الكلمات تصف حقيقة أم تصور خيالاً؟
فإن الصفات لا تتحقق إلا بظهور آثارها في الخارج، وبشهادة الواقع الذي لا يمارى فيه لها، والوعي الحقيقي يصحبه رعي، ويعقبه سعي، واليقظة الحقيقية يصحبها علم لا هوينا فيه، ويتبعها عمل لا تردد فيه.
والنهضة الحقيقة يَصْحَبُها حزم لا هوينا فيه، ويتبعها عزم، ويسوقها إقدام لا إحجام فيه إلى غاية لا اشتباه فيها.
..إنَّ المعاني الحقيقية للألفاظ الثلاثة لا تظهر إلا إذا سبقتها إرهاصات، أو أمارات، كما يسبق الفجر طلوع الشمس، وأدلُّها تقارب القلوب، وتعارف الشخوص أو تجاوب الشعور، وتجانس الأفكار، وتعاطف الأرواح، وتهيؤ الطباع إلى الاستحالة من صبغة إلى صبغة، وإلى الانسلاخ من جلدة إلى جلدة، وصدق التوجيهات من النتائج إلى المقدمات، ومن الوسائل إلى الغايات، وسهولة التغلب على المضائق، وسرعة الاستجابة إلى داعي الحق إذا دُعِيَ إليه، وخفَّة الإقدام إلى الأمام، وتلمس القيادة الرشيدة، والشعور بالحاجة إلى توحيدها وغير ذلك من العوارض التي تظهر لمثل هذه الأطوار من حياة الأمم، وهل هذه الإرهاصات موجودة؟
نعم يوجد بعضها القليل ولكن آفته الكبرى أنه مُتّجه إلى غير القبلة المشروعة، وإن الرياح تسوق سحبه إلى غير أرضنا.
لِنَخْرُجْ من النفاق الغرَّار الخادع، إلى الصدق والصراحة فنقولَ: الموجود من تلك الأشياء الثلاثة هو الأسماء مفسَّرة في الغالب بغير معانيها، مصوَّرة بغير صورها الحقيقية.
وإذا فسد التصور فسد التصوير..
فتصحيح معاني هذه الكلمات يستلزم إصلاحاً شاملاً للمفاسد النفسية، ويتغلغل إلى مكامن الأمراض فيها، فيطهرها ليبني العلاج على أصل صحيح وإلى عروق الشرِّ منها فيمتلخها ليأْمَنَ النكسة.
ومردُّ ذلك كله إلى الأخلاق فهي أول ما فسد بيننا؛ فتكون أول ما أفسد علينا كل شيء.
فلتكن هي أول ما نُصْلِـح إنْ كُنَّا جادِّين في تثبيت الوعي، واليقظة، والنهضة؛ لأن الأخلاق إذا استقامت تفتحت البصائر للوعي، وتهيأت الشواعر لليقظة وانبعثت القوى للنهضة، فكان الوعي بصيراً، وكانت اليقظة عامّة وكانت النهضة شاملة، وكانت الحياة لذلك كله كاملة.
نعترف أن نومنا كان ثقيلاً، وبأنَّ عمر أمراضنا كان طويلاً.
نعرف أنَّ النوم الثقيل لا يصحو صاحبه لا بصوت يصخّ، أو بضرب يصكّ، وأنَّ المرض الطويل لا يشفى المبتلى به إلاَّ بتدبير حكيم قد يفضي إلى البتر أو القطع، وقد أصابنا من القوارع ما لو أصاب أهل الكهف لأبطل المعجزة في قصتهم، ومما كانوا به مثلاً في الآخرين.
ولكننا لم نَصْحُ من نوم إلاَّ لنستغرق في نوم، ولم نَنْفلت من قبضة مُنَوِّم؛ إلا لنقع في قبضة مُنَوِّم.
صَحَوْنا من نوم الاتكال، فنقلنا إلى نوم التواكل، وخرجنا من نوم الجهل ومن نوم الركود، إلى طفرة تدقُّ الأعناق، وانفلتنا من تنويم تُجَّار الدين فوقعنا في تَنْوِيم تجار السياسة.
أولئك يمنوننا بسعادة الآخرة من دون أن يسلكوا بنا سبيلها الواضحة، وهؤلاء أصبحوا يُغَنُّون لنا بسعادة الدنيا دون أن يدلونا على نهجها الصحيح، وكانت العاقبة لذلك كله ما نرى وما نحس وما نشكو.
وما أضلنا إلا المجرمون الذين يدعونا بعضهم إلى الجمع بوسيلة التفريق، ويدعونا بعضهم إلى النجاة بطريقة التغريق، والأولون هم.. الضالون الذين فرَّقوا الدين إلى مذاهب وطوائف، والآخرون رجال السياسة الغاشون الذين بَدَّلوا المشرب الواحد، فجعلوه مشارب.
فهل هَبَّة من روح الإسلام على أرواح المسلمين تذهب بهؤلاء وهؤلاء إلى حيث ألقت، وتجمع قلوبهم على عقيدة الحق الواحدة، وألسنتهم على كلمة الحق الجامعة، وأيديهم على بناء حصن الحق على الأُسس التي وضعها محمد.
ولا مَطْمَع لنا في الوصول إلى هذه الغاية إلاَّ إذا أصبح المسلم يلتفت إلى جهاته الأربع فلا يرى إلا أخاً يشارك في الآلام والآمال، فهو حقيق أن يشاركه في العمل.
إنَّ الوسائل إلى هذه الغاية كثيرة، وأقربها نفعاً، وأجداها أثراً أنْ تُربَّى الأحداث من الصبا على غير ما ربَّانا آباؤنا، وأن نحجب عليهم نقائصنا، فإن اطلعوا عليها سميناها باسمها، وأنها نقائص، وأنها سبب هلاكنا، وحذرناهم من التقليد لنا فيها، فإذا شبُّوا على هذه الهداية سلكنا بهم سبيل الحق الواحدة، ووجهناهم بتلك القابلية إلى وجهة واحدة، وحميناهم من هذه التيارات الفكرية التي تتجاذبهم، ومن الذئاب الغربية التي تتخطفهم. (آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى 4/219-221 بتصرف يسير).