للفتوى منزلة عظيمة في الدين، وأهلها هم أهل الرفعة في الدنيا والآخرة، لكن حَدَث في تناولها إفراط وتفريط.
.. من الناس من تجرأ على الفتيا وليس لها بأهل، وتزبَّب قبل أن يتحصرم، فضَلَّ وأضَلَّ.
والدليل على فساد ذلك قصة الصحابي الذي أصابته جنابة ولا ماء، وكان فيه شجة، فأفتاه من حضره من الصحابة بالغسل، وكان زمن برد شديد، فمات، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: “قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذ لم يعلموا، إنما شفاء العي السؤال” فهذه آثار الفتوى بدون علم على النفس والغير
.. ومن الناس من هو أهل للفتيا لكن شُغل عن ذلك بغير العلم فضيَّع علمه، إما لتنافسه على الدنيا أو لعدم تمسكه في نفسه وأهله بما يفتي به.. فنفر الناس عنه، ونحو ذلك.
..ومن الناس من عنده علم في باب من أبواب الفتوى ولم يقتصر على ما رُزِق، فدخل في غير فنِّه، فأتى بالعجائب والموبقات.
.. ومن الناس من يُحسن الخطابة مثلاً، فاغتر الناس به، وظنوا أنه أهل للفتيا في المسائل العامة والخاصة، واغتر هو بالأتباع، فخاض فيما لا يحسن فأفسد.
..ومن الناس من ادعى إغلاق باب الاجتهاد من وقت قديم، ودعا إلى التقليد فقط.
وأما أهل الحق فسلكوا مسلك الوسط، الذي هو بين التشديد المفرط والتيسير المنفلت غير المنضبط ولهم في ذلك عدة أمور ومعالم:
1. أن باب الاجتهاد مفتوح لمن دخله بشروطه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ودعوى إغلاق هذا الباب تضييق لواسع ن وحرمان لمن تأهّل من منزلة أكرمه الله بها، والواقع يثبت ذلك.
2. أن الاجتهاد منه مطلق، ومنه مقيد، وأنه يتبعض، فقد يكون العالم مجتهدا في الشريعة على جميع المذاهب، وقد يكون مجتهداً في مذهب دون غيره، وقد يكون مجتهداً في الحديث دون غيره، أو الفقه دون غيره.. وهكذا .
3. أن المسائل الشرعية مختلفة المراتب، ولكل مسألة أهلها الذين يتناولونها..
أ – فهناك مسائل فرعية في أبواب الفقه، ويتناولها عامة العلماء، إلا إذا خرجت هذه المسائل عن مجاله الذي تأهّل فيه.
ب- وهناك خصومات ترجع إلى القضاة والحكام، لا مطلق العلماء.
ج – وهناك مسائل ونوازل عامة لها العلماء ومن شابت لحاهُم في العلم.
4. كُتُب المذاهب يستفاد من علم أهلها، لأنهم الذين فهموا الشريعة وصوروها، فالمطلوب فهم مرادهم، ومعرفة مآخذهم، وإدراك طريقتهم في ترتيب الأدلة بين ما ظاهره التعارض، وطريقة مناظراتهم، ومراتب الحجج والبراهين عندهم، وطرق استنباطاتهم، وما يُعوَّل على ذلك من غيره، وقواعدهم المتفق عليها والمختلف فيها، وأساليبهم في الرد على المخالف سواء كان من أهل السنة أو غيرهم، لكن لا يلزم من ذلك إغلاق باب الاجتهاد.
5. لزوم الوسط بين من يرون أن الحق في الشدة الاحتياط، وبين من يرون أن الحق في التيسير والانفلات، وإننا نأخذ بالتشديد في مكانه وبالتيسير في مكانه..
6. لزوم الوسط بين من غلا في اعتبار المصالح ودرء المفاسد، حتى أخذ بالمصالح المتوهمة، ولم يراع شروط هذه القاعدة، وبين من جفا فرأى إلغاء المصالح مطلقا، وأن النظر في النصوص كافٍ، والأخذ بظاهرها هو المصلحة..
7. لزوم الوسط في الحكم على الأشياء بين أهل العاطفة وسوء الظن وحمل الأمور على الأسوأ، وبين أهل التفريط وعدم أخذ الحِذْر وسدّ الذرائع، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، فلا بد من منهج قائم على قواعد صحيحة في الحكم على الأشياء، والأوضاع، والأشخاص، والأفكار، والنوايا والمقاصد، والمجتمعات، والدول، والعلماء والدعاة، وبقية الناس.
8. لزوم الوسطية في منهج التفكير بين العقل الجامد والعاطفة الجامحة، فالعقل مطلوب دون إلغاء العاطفة، والعاطفة والحماس للدين مطلوبان لكن دون غياب العقل السليم ورعاية النص..
لابد في هذا المنهج أن يقوم على التفرقة بين حالة السعة والاختيار، وحالة العجز والاضطرار، وحالة القوة والاستخلاف من حالة الفرقة والاستضعاف.
ولا بد في هذا المنهج من مراعاة المخاطبين، فكلام يُذكر عند طائفة ولا يُذكر عند أخرى لسوء فهمهم، أو سوء تطبيقهم، أو استغلالهم هذا الكلام واتخاذه ذريعة لباطلهم.