الالتفاف حول (المحكمات) وأثره في الفتوى وحماية المعتقد

إن الانفتاح العلمي والفكري والإعلامي الذي يعيشه المسلمون اليوم حالة فريدة لم يسبق لها مثيل، ولم يعد -ما كان سابقًا منذ عقد أو عقدين من الزمان- بالإمكان تحديد وضبط قنوات التلقي والتوجيه والفتوى!
بل وبسبب تنوع وسائل الإعلام المشاهد منه والمقروء، ولسهولة التعاطي معه ولكل أحد، بات المسلم يسمع الفتوى والتوجيه من أكثر من مكان، ومن مشارب مختلفة ومذاهب شتى واتجاهات متباينة، وفي كل: الغث والسمين، والقريب والبعيد، والجيد والرديء..
لذا لابد من الاتفاق على قدر مشترك من العلم والفتوى لا ينبغي بل لا يجوز التساهل فيه والإفتاء بغيره! وإلا لوقع المكلفون في خلط عظيم، وارتكبت جناية على الدين! وهذا القدر الذي يجب الالتفاف حوله والانطلاق من خلاله واستحضاره جيدًا عند كل فتوى أو اجتهاد هو (المحكمات في الدين)..
والمحكمات التي نقصدها في هذا السياق هي ما لوحظ في تعريفها الأوصاف الآتية، وهي:
1- الحفظ وعدم التغيير والتبديل.
2- الوضوح والبيان.
3- كونها أصلاً ومرجعًا.
وعليه فهي أصول تُرد إليها المتشابهات والجزئيات، كما وصفها القرآن أم الكتاب وعمدته وأساسه، قال الله تعالى: }هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ…{.
قال الإمام محمد بن إسحاق رحمه الله في تفسير الآية: “المحكمات: هن حجة الرب وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه” تفسير ابن كثير.
وقال الإمام القرطبي المالكي رحمه الله: “فالمحكم أبدًا أصل ترد إليه الفروع“الجامع لأحكام القرآن.
ومن خلال هذه الصفات المهمة والخطيرة للمحكمات تأتي أهميتها ووجوب رعايتها من قبل المفتين وعامة المكلفين، فالفتوى عند صدورها من المفتي مهما كان مذهبه أو زمانه أو مكانه يجب أن تنسجم وتتوافق معها ولا يجوز أن تعارضها أو تعود عليها بشيء من الإبطال أو النقص، فتكون الفتوى بحول الله من وسائل حماية المعتقد وبيان الشريعة.
وبما أن المحكمات هن أصل هذا الدين وقاعدته المتينة، فإن الحفاظ على القاعدة فوق أنه واجب ضروري شرعًا وعقلاً، فإن آثار هذا الحفظ محمودة الغب ظاهرة الأثر، ومن آثار ذلك في مقام الفتوى وانعكاسه بالتالي على المكلفين:
1- ضبط الفتوى، وذلك بردها إلى أصول محكمة هي محل إجماع بين أهل العلم، فلا يستطيع المفتي تجاوز هذه الحدود؛ وإلا تكون فتواه بعيدةً عن الصواب بقدر ابتعاده عن هذه الحدود.
2- تقليل دائرة الاضطراب في الفتوى قدر الإمكان، ومرد ذلك إلى توحيد جهة الرد (إلى المحكمات)، فإذا استحضرت هذه المقاصد الضرورية عند تحرير الفتوى، ورعاها المفتي حق رعايتها، فإن كثيرًا من المسائل المتعلقة بالاعتقاد والقضايا الكلية التي تهم مجموع الأمة ستكون محل اتفاق؛ أو على الأقل فإن دائرة الخلاف ستكون ضيقة إلى حد كبير، مما سيؤدي إلى جمع الأمة على رأي واحد -قدر الإمكان- في القضايا والمسائل الكلية لاسيما المتعلقة بباب الحوادث والوقائع.
3- من آثار هذا الحفظ على المكلفين (المجتمع الإسلامي) منع الفساد في الأرض، وإبراز المنهج الرباني الذي يقدم التصور الصحيح لقضايا الدين والدنيا؛ ومنه: تحريم الشرك والأهواء المضلة لمعارضتها لأصل التوحيد، والبدع والمحدثات التي تخالف المنهج السديد، وكذلك تحريم الاعتداء على النفوس والأعراض ماديًّا أو معنويًّا، وتحريم ومنع كل الوسائل المفضية إلى الانحلال الخلقي والإباحية، واستحلال المحرمات، وتحريم كل ما يضر بالعقل من أفكار ضالة وأهواء منحرفة وخرافات ساقطة..
قال العلامة السعدي رحمه الله: “ووصفه (أي القرآن) بأن {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] فهنا وصفه بأن بعضه هكذا وبعضه هكذا، وأن أهل العلم بالكتاب يردون المتشابه منه إلى المحكم، فيصير كله محكماً ويقولون: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] أي: وما كان من عنده فلا تناقض فيه، فما اشتبه منه في موضع، فسره الموضع الآخر المحكم، فحصل العلم وزال الإشكال” القواعد الحسان. (انظر:مجلة البحوث الإسلامية).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *