داء التفرق والنزاع داء عظيم، وشر مستطير، يفتك بالأمم، ويأتي على الأمة العظيمة فيفرق صفوفها، ويشتت شملها، ويفشل جهودها، ثم يجعلها هباء منثورا، كأن لم تكن مجتمعة بالأمس، ويمر بأعظم الأمم وأقواها، فيجعلها من أضعف الأمم وأهونها.
قال ابن عباس رضي الله عنه لسماك الحنفي: “يا حنفي، الجماعة! الجماعة! هلكت الأمم الخالية لتفرقها، أما سمعت الله تعالى يقول: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}” الجامع لأحكام القرآن 4/164.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسير الآية:” وقوله : {ولا تفرقوا} أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف.. وخيف عليهم الافتراق والاختلاف وقد وقع ذلك في هذه الأمة، فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة منها فرقة ناجية إلى الجنة ومسلمة من عذاب النار وهم الذين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه” تفسير القرآن 1/514.
فحتى أمة الإسلام، لم تنج من هذا المرض، إذ أتاها وهي عزيزة الجانب، منيعة الأسوار، شامخة الأنوف، فجعلها في حال من الضعف والذل لا تغبط عليه، ولهذا كان التفرق أوسع شرا، وأعظم ضررا من تعاطي الفجور، وشرب الخمور.
وصدق من قال: “إذا كانت الخمر أم الخبائث، فإن التفرق أبو الرزايا والبلايا والمصائب”.
وما سقطت -على ممر التاريخ- كثير من ديار المسلمين في أيدي الأعداء، إلا بالتفرق والنزاع والبعد عن دين رب الأرض والسماء.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله عن حال أهل زمانه: “وبلاد الشرق من أسباب تسليط الله التتر عليها كثرة التفرق والفتن في المذاهب وغيرها” الفتاوي22/254.
فالحذر الحذر من الافتراق والشقاق، والبعد عن السنة والوفاق فما جر ذلك على الأمة إلا الشقاقات المتلاحقة، والانفصالات المتتالية، فتبع ذلك معارك ضاربة، وحروب طاحنة، فاشتغل الناس بكثير مما هو عرض، وغفلوا عن أصل الداء والمرض، فتداعت الأمم علينا من كل حدب وصوب، فحل الذل والهوان، والله المستعان.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وهذا التفريق الذي حصل من الأئمة علمائها ومشائخها وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: “وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ.”
فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب} الفتاوي 3/419-421.
وعليه فداء التفرق والاختلاف سبب رئيس لتسلط الأعداء علينا، وذلك لما ينتج عنه من الفشل وذهاب القوة والمنعة، كما كشف عن ذلك ربنا جل وعلا عند معرض الكلام عن ملاقاة العدو في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه الفروسية 505 :”ونختم هذا الكتاب بآية من كتاب الله تعالى جمع فيها تدبير الحروب بأحسن تدبير، وهي قوله تعالى:{ َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}
فأمر المجاهدين فيها بخمسة أشياء، ما اجتمعت في فئة قط إلا نصرت وإن قلت وكثر عدوها:
أحدها: الثبات.
الثاني: كثرة ذكره سبحانه وتعالى.
الثالث: طاعته وطاعة رسوله.
الرابع: اتفاق الكلمة وعدم التنازع الذي يوجب الفشل والوهن، وهو جند يقوي به المتنازعون عدوهم عليهم، فإنهم في اجتماعهم كالحزمة من السهام، لا يستطيع أحد كسرها، فإذا فرقها وصار كل منهم وحده، كسرها كلها.
الخامس: ملاك ذلك كله وقوامه وأساسه، وهو الصبر.
فهذه خمسة أشياء تبتنى عليها قبة النصر، ومتى زالت أو بعضها زال من النصر بحسب ما نقص منها، وإذا اجتمعت قوى بعضها بعضا وصار لها أثر عظيم في النصر، ولما اجتمعت في الصحابة لم تقم لهم أمة من الأمم وفتحوا الدنيا ودانت لهم العباد والبلاد ولما تفرقت فيمن بعدهم وضعفت آل الأمر إلى ما آل”.