الفتن والبلايا كير القلوب، ومحك الإيمان وبها يتبين الصادق من الكاذب كما قال تعالى: )وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(.
قال العلامة السعدي رحمه الله عند تفسير هذه الآية: “يخبر تعالى عن تمام حكمته وأن حكمته لا تقتضي أن كل من قال: (إنه مؤمن) وادعى لنفسه الإيمان، أن يبقوا في حالة يسلمون فيها من الفتن والمحن، ولا يعرض لهم ما يشوش عليهم إيمانهم وفروعه، فإنه لو كان الأمر كذلك، لم يتميز الصادق من الكاذب، والمحق من المبطل” تيسير الكريم الرحمن.
فالمحن تقسم الناس إلى صادق وكاذب ومؤمن ومنافق، وطيب وخبيث، فمن صبر عليها -مع فعل ما ينبغي فعله وفق الأحكام الشرعية والأنظار المرعية- كانت رحمة في حقه بثباته، ونجا من السوء ببصيرته، وإلا وقع فيما هو أعظم وأشد.
فمما يعين على الصبر عن الخوض في الفتن المضلة والمشاركة فيها بالأقوال أو الفعال معرفة طبائعها وخصائصها والبصيرة فيها وجملة ذلك كالآتي:
1- أنها تتزين للناس في مباديها، حتى تغريهم بملابستها والتورط فيها.
قال ابن عيينة عن خلف بن حوشب: كانوا يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن، قال امرؤ القيس:
الحرب أول ما تكون فتية***تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها***ولت عجوزا غير ذات خليل
شمطاء ينكر لونها وتغيرت***مكروهة للشم والتقبيل
وكان خلف يقول: “ينبغي للناس أن يتعلموا هذه الأبيات في الفتنة” السنن المأثورة للشافعي 344.
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله:” نوار الفتنة لا يعقد” مداواة النفوس 84.
والنوار: الزهر، ويقال: عقد الزهر: إذا تضامت أجزاؤه فصار ثمرا.
ومعنى كلام ابن حزم رحمه الله أن للفتنة مظهرا خادعا في مبدئه، حتى يستحسن الناس صورتها، ويعقدوا الآمال عليها، ولكن سرعان ما تموت وتتلاشى، مثل الزهرة التي تموت قبل أن تتفتح، وتعطي ثمرتها.
2- تذهب بعقول الناس، وتستخفهم ببداءاتها، وكما قيل: “عند الفتن تذهل النفوس عن النصوص”.
فعن حذيفة رضي الله عنه قال: “ما الخمر صرفا بأذهب بعقول الرجال من الفتنة” الحلية لأبي نعيم 1/274.
3- متى ما وقعت فإنها سرعان ما تتطور، وتخرج عن حدود السيطرة، حتى إنها لتستعصي على من أشعلوها إن حاولوا إطفائها.
قال بعضهم: “من أعطى من نفسه أسباب الفتنة أولا، لم ينج آخرا، ولو كان جاهدا”.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: “والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء..” منهاج السنة 4/343.
فاحرص عبد الله على الصبر والاحتساب عند الفتن المدلهمات استعانة بالبصيرة فيها ومعرفة لحقائقها، وادعو الله بالثبات إذا زادت غربة الإسلام واحذر طرق التهييج كما هو حال أهل البليات كما قال شيخ الإسلام رحمه الله -وما أنفس ما قال-: “وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغير كثير من أحوال الإسلام جزع وكل وناح كما ينوح أهل المصائب وهو منهي عن هذا؛ بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام؛ وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وأن العاقبة للتقوى وأن ما يصيبه فهو بذنوبه فليصبر إن وعد الله حق وليستغفر لذنبه وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار” الفتاوي 18/291.
مع العلم أن كلامنا عن البصيرة بحال الفتن والمحن وأهمية الصبر عند ذلك القصد منه الصبر الجميل، لا يبس القلب فتنبه ولا تكن من الغافلين.
قال ابن القيم رحمه الله: “وقد أمر الله سبحانه في كتابه بالصبر الجميل.. فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه (أي: الشكوى للخلق، فأما شكوى الأحوال إلى ربنا ذي الجلال فهو مطلوب) ولا معه” المدارج 2/160.
وقال كذلك رحمه الله: “والفرق بين الصبر والقسوة: أن الصبر خلق كسبي يتخلق به العبد، وهو حبس النفس عن الجزع والهلع والتشكي، فيحبس النفس عن التسخط، واللسان عن الشكوى، والجوارح عما لا ينبغي فعله، وهو ثبات القلب على الأحكام القدرية والشرعية.
وأما القسوة فيبس في القلب يمنعه من الانفعال، وغلظة تمنعه من التأثر بالنوازل، فلا يتأثر لغلظته وقساوته لا لصبره واحتماله” الروح 324.