من ترك ما ينفعه مع الإمكان ابتلى بالاشتغال بما يضره، وحُرٍم الأمرَ الأول، وذلك أنه ورد في عدة آيات: أن المشركين لما زهدوا في عبادة الرحمن ابتلوا بعبادة الأوثان، ولما استكبروا عن الانقياد للرسل، بزعمهم: أنهم بشر، ابتلوا بالانقياد لكل مارج العقل والدين، ولما عرض عليهم الإيمان أول مرة فعرفوه، ثم تركوه، قلب الله قلوبهم، وطبع عليها وختم، فلا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.
ولما بين لهم الصراط المستقيم، وزاغوا عنه اختياراً ورضا بطريق الغي على طريق الهدى والرشد، عوقبوا بأن أزاغ الله قلوبهم، وجعلهم حائرين في طريقهم.
ولما أهانوا آيات الله ورسله أهانهم الله بالعذاب المهين.
ولما استكبروا عن الانقياد للحق أذلهم في الدنيا والآخرة.
ولما منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وأخربوها ما كان لهم بعد ذلك أن يدخلوها إلا خائفين.
“وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ، فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ” (التوبة).
قال السعدي رحمه الله في التفسير: “أي: ومن هؤلاء المنافقين من أعطى اللّه عهده وميثاقه “لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ” من الدنيا فبسطها لنا ووسعها “لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ” فنصل الرحم، ونقري الضيف، ونعين على نوائب الحق، ونفعل الأفعال الحسنة الصالحة.
“فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ” لم يفُوا بما قالوا، بَل “بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا” عن الطاعة والانقياد “وَهُمْ مُعْرِضُونَ” أي: غير ملتفتين إلى الخير.
فلما لم يفوا بما عاهدوا اللّه عليه، عاقبهم “فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ” مستمرا “إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ”.
فليحذر المؤمن من هذا الوصف الشنيع، أن يعاهد ربه، إن حصل مقصوده الفلاني ليفعلن كذا وكذا، ثم لا يفي بذلك، فإنه ربما عاقبه اللّه بالنفاق كما عاقب هؤلاء.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت في الصحيحين: “آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف”.
فهذا المنافق الذي وعد اللّه وعاهده، لئن أعطاه اللّه من فضله، ليصدقن وليكونن من الصالحين، حدث فكذب، وعاهد فغدر، ووعد فأخلف.اهـ
والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، يخبر الله فيها أن العبد كان قبل ذلك بصدد أن يهتدي الطريق المستقيم ثم تركها بعد أن عرفها، ونكص عنها بعد أن سلكها عوقب بإبعاده في طريق الضلالة الذي ارتضاه لنفسه وترك به طريق الهدى.
فالاهتداء غير ممكن في حقه ما دام متحيراً في طريق غوايته ممعناً في سبيل ضلالته.
جزاء على فعله، كقوله في اليهود في سورة البقرة: “نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأنهم لا يَعْلَمُونَ، وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ” (البقرة)، فإنهم لما تركوا اتباع كتب الله المنزلة من عنده لهداية العباد، وإصلاح شؤونهم وإسعادهم، ابتلوا باتباع أرذلـّها وأخسئها وأضرّها للعقول، وأفتكها في إفساد المجتمع، ولما ترك المحاربون لله ورسوله إنفاق أموالهم في طاعة الرحمن، ابتلاهم بإنفاقها في طاعة الشيطان.